• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القراءة من علامات قوّة الأُمم

عمار كاظم

القراءة من علامات قوّة الأُمم

السبيل إلى العلم هو القراءة، وهو من مؤشرات القوّة، وهذا أيضاً بادٍ في القرآن في عدّة مواضع، منها ما ورد في قوله تعالى: (قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل/ 39-40). فالعلم هو السلاح الأمضى، هو العلامة لتقدّم الأُمم وتأخّرها، والقوّة التي تُبنى بغير العلم هي قصيرة المدى، لا يعوَّل عليها كقوّة حقيقية وثابتة ومستقرّة. وهذا المعنى واضح وجليّ في واقعنا تمام الوضوح، فالأُمم التي تملك مفاتيح العلم وتُطبَع فيها الكُتُب وتقرأ وتؤلِّف وتنتج علوماً ومعارف، هي التي تتسيِّد هذا العالم وتسيّره وفق ما تريد.

وقال تعالى في محكم كتابه: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 1-4). اختلف هنا المفسِّرون في معنى القلم، فمنهم مَن قال إنّه القلم الذي تخطّ به صحائف أعمال البشر، أو القلم الذي تخطّ به الملائكة العظام الوحي السماوي. ولكن كون هذه السورة مكيّة، لذا قد يرجّح أن يكون القلم هنا، ما كان متعارفاً عليه عند العرب، وما هو متعارف عليه لدينا للكتابة.. وهذا المعنى فيه دلالة عميقة وبالغة لا يمكن تجاوزها، كون الله أقسم به أوّلاً وقدّمه على ما سواه، وثانياً، كون الكتابة عند العرب في مكّة كانت صنعةً نادرةً لم يدركها إلّا القليل في مكّة، وكان مجتمعهم مجتمع الأُمّيّين.. وعلى كلٍّ، فالأُمم كانت في ذلك الزمن بأكثرها أُميّة، ومن هنا الأهميّة. ولكنّ هذا المعنى وإن كان ثورياً نسبةً إلى المجتمع الذي نزل به ومعنى تغييرياً، ولكنّه متناسق ومنسجم مع عمق القرآن وظاهره، ومع آياته التي كانت تتوالى على الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ بدئها حتى اكتمالها، التي أصبحت الأساس في فتح القلوب على الدعوة التي أمره الله بتبليغها للناس كافّةً، فبدونها لن تبلغ الرسالة أهدافها، ولن يتحقّق مشروعها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5).

إنّ فعل القراءة كأساسٍ لبناء المعرفة والوعي والثقافة، هو ما توجّه به الله سبحانه وتعالى إلى رسوله في أوّل خطابٍ له بالوحي، وهو ما أراده الله لأُمَّته أن تكون: الأُمَّة القارئة والأُمَّة الواعية. وفي نظرة إلى الماضي الإسلامي تؤكِّد هذا المعنى، فالمنهج القرآني المُفتَتَح بـ(اقْرَأْ)، والاهتمام الذي أولاه الإسلام بالكتابة والقراءة ومحو الأُميّة، واضح وجليّ، من خلال عتق الأسارى لقاء التعليم، وهذه البذرة التغييرية، هي التي نقلت العرب من مجتمعٍ جلّه أُمّيّ - وإن كان يتقن فنون الشعر -، إلى أُمّة متعلّمة انتشرت فيها المكتبات العامّة، وحتى المقاهي الثقافية ودور الأوراق والترجمة التي كانت حركتها نشيطةً ومكافأتها جزيلة.

كما وإنّ (اقْرَأْ) التي خاطب الله بها رسوله، هي ليست (اقْرَأْ) في الإطار الشرعي فقط، بل هي (اقْرَأْ) مقرونةً بمفاهيم متناهية وغير محدودة كالخلق، حيث قرن الله بين القراءة والأُفق الأوسع، أُفق الخلق الطبيعي (العلق والآفاق والسماوات والأرض)، والخلق الذاتي (الروح، وعلّم الإنسان ما لم يعلم). أراد الله لـ(اقْرَأْ) أن تكون نافذةً واسعةً للإنسان على الإنسان وعلى الطبيعة وعلى الخالق، لينهل من العلوم والتجارب والظواهر والأفكار، من علوم الناس على اختلافاتهم العقدية والفلسفية والفكرية، وغيرها من العلوم التي نحن مدعوّون لنقرأها.

ومن هنا، عندما نتحدَّث عن كميةٍ أو إحصاءاتٍ عن عدد الساعات أو الدقائق التي يقرأ بها الفرد، فهذه على فرض صحّة الإحصائيات، مهمّة، لكنّ الأهمّ هو نوع القراءة وتنوّعها وعمقها وجدّيّتها، فإنْ قرأ المرء الساعات الطوال يومياً بما لا يُخرج العقل من حدود الدوائر الضيِّقة التي يعيشها الإنسان، فهذه قراءة لا توصلك إلى الفضاءات الرحبة، بل المطلوب القراءة الموسعة التي يراد منها تكسير الحواجز وردم الهوّات وتوسعة الآفاق، والتعرّف إلى الآخر.

ارسال التعليق

Top