يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة/ 207). وفي أسباب النّزول، يقول المفسّرون إنّ هذه الآية نزلت في عليّ (ع)، عندما بات على فراش النبيّ(ص) ليلة الهجرة، وهي تختصر كلّ سرّ عليّ في كلّ منطلقات حياته، وفي كلّ امتداداتها، وفي كلّ آفاقها، وفي كلّ روحانيّتها وحربها وسلمها.
علاقة عليّ (ع) مع الله
عليّ (ع) هو الإنسان الذي باع نفسه لله، فلم يشعر بأنّ هناك شيئاً للذّات في عقله، ليحرّك عقله على أساس ما يعطي الذّات ضخامة وانتفاخاً وقوّة وحيويّة بين النّاس، كما ينطلق المثقّفون والمفكّرون والأبطال من أجل أن يضخّموا شخصيّتهم لخدمة أطماعهم وأحلامهم.
وهكذا كان قلب عليّ (ع) في كلّ نبضاته، وفي كلّ خفقاته، فلم ينبض قلبه إلاّ بحبّ الله، حتى إنه عندما كان يفكّر في النار، فإنّه، وهو البعيد كلّ البعد عنها، لم يكن يفكّر في لذعاتها ولا في لهيبها، ولكنه كان يفكّر في الله ويخشى أن تحجبه عنه تعالى: "فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي، صبرتُ على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟". ليست مشكلتي يا ربِّ هي مشكلة العذاب، بل هي أنَّ العذاب لو حدث، فإنّه يمثّل حاجزاً يحجزني عنك، فلا ألتقي بك، لأنَّ الذين يعذَّبون، يبعدهم الله عن رحمته فلا يلتقونه، "وهبني صبرتُ على حرّ نارك، فكيف أصبرُ عن النّظر إلى كرامتك"، وقد عوّدتَني كلّ كرامتك وكلّ لطفك وكلّ آفاق المحبّة التي تملأ قلبي.
وهكذا كان عندما يتحرّك في الحياة مع نفسه، كان يقول للدّنيا: "هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً"، وعندما كان يعيش مع الناس، لم يكن يفكّر فيهم إلاّ من خلال الله: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنّني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم".
في بيت النبوة
ثم يحدّثنا عن أستاذه الّذي ربّاه وعلّمه، ليعرّفنا أنّه أخذ كلّ أخلاقه من ينبوعٍ صافٍ يتدفَّق من لطف الله ومن روحه: "ولقد قرن به ـ أي رسول الله ـ من لدن أن كان فطيماً ـ ولاحظوا هذا التّناسب، فالنبيّ(ص) منذ أن فُطِم عن الرّضاعة، تلقّفته ألطاف الله، وعليّ عندما فُطِم عن الرّضاعة، تلقّفه رسول الله. لاحظوا هذه المسألة الدّقيقة التي تعرّفنا لطف الله بالرّسول(ص)، ولطف الله بأخيه عليّ(ع) ـ أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، وكنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمِّه ـ كيف يسير فصيل النّاقة خلف أمّه، يقف عندما تقف، ويتحرّك عندما تتحرّك ـ يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ـ ليس علماً نظريّاً يدخل العقل، ولكنّه علم عمليّ يتحرّك في العقل وينزل إلى القلب ويتحرّك في الجسد، ليكون حياةً تتحرّك. ثم ـ ولقد كان يجاور بكلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري ـ ومعنى ذلك، أنّه ليس هناك مع النبي إلاّ عليّ في عزلته التأمليّة، العباديّة، الروحيّة، التي يعيش فيها مع الله في ابتهالاته وفي تأمّلاته، وما شُغلُ عليٍّ إلاّ أنّه كان يتأمّل من حيث يتأمّل رسول الله، ويبتهل من حيث ابتهل، ويعيش الروحانية من حيث عاش الروحانيّة ـ ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما".
طفولة في رحاب الرّسالة
وتعالوا أيّها الأحبّة نعيش مع عليّ (ع) حديثه عن طفولته، كيف كانت؟ ومن الذي علّمه وربّاه مَن الذي أعطاه علمه وروحه؟ مَن الذي وهبه كلّ عناصر الحقّ في شخصيّته؟ مَن الذي فتح عقله على الله وفتح قلبه على المسؤوليّة وحرّكه في اتّجاه الحقّ؟ استمعوا إلى عليّ يتحدَّث: "وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصّيصة، وضعني في حجره وأنا وليد "، وعمره آنذاك سنتان أو أقلّ، "يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده"، كان يحتضنه عندما ينام كما تحتضن الأمّ ولدها، "ويشمّني عرفه ـــ رائحته الذكيَّة ـــ وكان يمضع الشَّيء ـ عندما كانت أسنانه لا تزال في البداية ـ ثمّ يلقمنيه. وما وجد لي كذبةً في قول ـــ في كلّ ما تحدّثت معه ومع غيره ـــ ولا خطلة في فعل"، ومعنى ذلك أنَّ عصمته في طفولته عصمة وعي، لأنَّ بيئته كلّها كانت رسول الله، فهو لم يعش مع الأطفال، ولم يتحرّك في طفولته ليكتسب عادةً سيّئة هنا أو عادةً قبيحة هناك، بل كان رسول الله كلّ شيء عنده؛ كان مدرسته، كان بيئته، وكان مجتمعه، بل كان رسول الله فكره وقلبه وروحه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق