من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام محمّد بن عليّ الجواد (عليه السلام)، ونحن إذ نتحدّث عن حياته (عليه السلام)، فلكي نتعلّم كيف نعيش الإسلام من خلال هذه الصفوة الطيِّبة من أهل البيت (عليهم السلام)، وكيف نواجه حاضرنا من خلال الخطوط المضيئة في ماضينا، من أجل أن نصنع مستقبلنا جميعاً على أساس وحي الله وتعاليم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي انطلق بها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين جسّدوا في كلماتهم وتعاليمهم وأعمالهم وسيرتهم كلَّ ما انطلق به الكتاب وما تحرّكت به السُّنّة. والإمام الجواد (عليه السلام)، هو الذي انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على النبيّ يحيى (علیه السلام) في نبوّته (واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً) (مريم/ 12)، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) مسؤولية الإمامة، حيث يمكننا أن نُسمّيه بـ«الإمام المعجزة»، لأنّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيَّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته.
وقد استطاع (عليه السلام) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يروي محمّد ابن طلحة فيقول: (لما تُوفّي والده الرِّضا (عليه السلام) وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتفق أنّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصبيان يلعبون ومحمّد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمّد (عليه السلام) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنّ الله عزّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمّد (الجواد) مسرعاً: «يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنّي بك حَسَنٌ إنّك لا تضرُّ مَن لا ذنب له، فوقفت»).
إنّ هذه الكلمات العاقلة المتزنة تدلّ على وعي عميق للأُمور التي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها، فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطريق إذا كان يتّسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟ وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالناس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كلّ ذنب؟ هذا بالإضافة إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، ممّا لا يصدر من صبي يختزن عقل الصبا في شخصيته، بل إنّ ذلك يكشف عن عقل مفكر واسعٍ منفتح على الواقع من خلال مَلكة قدسية ربّانية.. وهذه هي المَلكة التي فرضت احترامه على المأمون وعلى الناس المحيطين به.
ونحن في هذا الموقف، نحاول أن نختار بعض كلمات الإمام (عليه السلام)، سواء في الموعظة أو في الجانب الاجتماعي السلوكي، من خلال بعض كلماته التي قالها وهو ينصح بعض أصحابه: «لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوّاً له في السرّ». فالإمام (عليه السلام) أراد من خلال هذه الكلمات، أن يعالج حالة أُولئك الذين يظهرون أمام الناس بمظهر الأتقياء المؤمنين، سواء في عباداتهم أو في كلماتهم أو في علاقاتهم، لكنّهم في الوقت نفسه عندما يعيشون السرية في حياتهم، فقد تجدهم أعداء لله، كأُولئك الذين يظلمون أسرهم، ويظلمون الناس الذين هم تحت سلطتهم، أو كأُولئك الذين يفتنون ويكذّبون في السرّ، بحيث يظهرون للناس بمظهر الأتقياء، ولكنّهم في السرّ يعيشون عيشة الأشقياء، الذين لا يتركون ذنباً إلّا أذنبوه، ولا يتركون أحداً إلّا ظلموه.. وهذه عبرة وحكمة من بحر من مواعظ وكلمات أهل البيت (عليهم السلام).. فهم معجزة الله تعالى على الأرض.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق