• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عاقبة المتقين

زهير الأعرجي

عاقبة المتقين
◄إنّ المتقين يحشرون في جان الخلد، جزاءاً بما عملوا من الصالحات في حياتهم الدنيا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) (مريم/ 85-86). والمراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنة وإنما سمي حشراً إلى الرحمن لأنّ الجنة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. أما المجرمين الكافرين المفسدين في الأرض فإنّهم يركضون إلى جهنم كما يجري الضمئآن إلى مجرى الماء جزاءاً بما كانوا يعملون. وورد أنّ الإمام عليّ (ع) سأل رسول الله (ص) عن تفسير قوله عزّ وجلّ: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) قال (ص): "يا علي الوفد لا يكون إلّا ركباناً أولئك رجالٌ اتقوا الله عزّ وجلّ فأحبهم واختصهم، ورضي أعمالهم فسماهم الله متقين".

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر/ 54-55). يضع القرآن الكريم المتقين في هذه الآية في جنات عظيمة الشأن، جليلة الوصف، والنهر قد يعني الجنس، أي النهر المصطلح عليه، وقد يعني السعة. والمراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم وعملهم، ولعلّه يراد بمقعد صدقٍ إنّ مقامهم فيه صدقٌ لا يشوبه كذب مع نعيم دائم عند الملك الجبار المقتدر سبحانه وتعالى.. وهذا ما يسرِّ قلب كلّ إنسان متقي بما وُعِدَ من الثواب والحضور عند ربه المليك المقتدر. يقول النبيّ (ص): "يا أبا دجانة أما علمت أنّ من أحبّنا وابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا قوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)".

إنّ المتقين يوم القيامة في درجات عليا حيث النعم الوافرة والرزق الكريم، وهم ينظرون إلى تحتهم فيرَون الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، يئنّون تحت العذاب الأليم.. (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة/ 212). إنّ الحياة الدنيا ببريقها وبهجتها تخدع الإنسان فينشغل بها وتستهويه شهواتها فينسى الله وينسى نفسه، فيدع نفسه تلهو وتلعب كما تشاء. والكفر هنا أما كفر مطلق، أي يكفر الإنسان بوجود الله سبحانه، ومقابله إيمان مطلق، أو كفر بستر حقيقة من الحقائق الدينية، وتغيير نعمة دينية، فالإنسان في هذه الحالة كافر زينت له الحياة الدنيا.. (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83).

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) (الرعد/ 35). الآية الكريمة تكشف مقابلة رائعة بين عاقبة المتقين وعاقبة الكفار، فبينما ينطلق المتقون ليتمتعوا بنعيم الآخرة ورضى الله سبحانه وتعالى، ترى الكافرين يجرون أذيال الخيبة والذل وليس لهم إلّا طريق واحد وهو طريق جهنم.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص/ 28)، حيث لا يمكن التساوي في نظر العدالة الإلهية بين المتقين والفجار، وبين المؤمنين والمفسدين. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) (الحجر/ 45-50).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (المرسلات/ 41-44). والآية الكريمة تسجل إذن وإباحية تصرف المتقين في الجنة.. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور/19).. (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر/ 61). ويقول تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون/ 111)، ويقول تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (الزمر/ 20).. ويؤكد القرآن الكريم على أنّ المتقين هم الفائزون.. (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ) (النبأ/ 31-37)، ويقول تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس/ 62-64).

ويعكس القرآن الكريم عاقبة المتقين من زاوية أخرى.. حيث يوجَّه السؤال إلى المتقين هذه المرة.. (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل/ 30-32). والآية التالية ترينا وجهاً آخر من وجوه النعيم الذي حفّ بالمتقين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور/ 17-28). ظاهر الآيات الكريمة أنّ الله سبحانه وتعالى يمتُّن على الذين آمنوا أنّه سيلحقُ بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان فتقرّ بذلك أعينهم، وينعم الله على هؤلاء المتقين بجنات الخلد حيث تأتيهم المتع واللذات الجسدية والمعنوية من الطعام والشراب والطمأنينة مع ملازمة صفة الاعتدال والحكمة، فالخمر في الجنة لا يؤثر على عقولهم، حيث ينفي القرآن اللغو والتأثيم على شاربي خمر الجنة، فيقول: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ).. ومن صفة هؤلاء المتقين أنّهم كانوا ذوي إشفاق في أهلهم حيث يعتنون بسعادتهم ونجاتهم من مهلكة الضلال فبثوا فيهم روح الإيمان والدعوة إلى الله سبحانه.. وصدق الله سبحانه عندما وعد المتقين بإيراث جنات الفردوس، فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 10-11).

وتستمر الآيات القرآنية الكريمة في وصف حال المتقين في الجنة... فتقول: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الزّمر/ 73-75). ووعَدَ الله المتقين بتزويجهم من الحور العين اللاتي لا يرينّ أحداً غير أزواجهنّ، وهنّ ذوات غنج ودلال، وهنّ متشابهات لا يختلفن سنّاً أو جمالاً، وكلّما زاد أزواجهنّ نوراً وبهاءاً زدن حسناً وجمالاً.. يقول تعالى.. (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) (ص/ 49-54). (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) (النبأ/ 31-33).

ويصف القرآن حال المتقين في الدنيا في معرض حديثه عن حالهم في جنات النعيم في الآخرة، فيقول إنّهم كانوا قليلاً من الليل ما ينامون ويهجعون، ذلك أنّهم كانوا مشغولين بالصلاة في الليل فيسألون الله المغفرة والتوبة، هذه سيرتهم مع الله سبحانه وتعالى حيث قيام الليل والاستغفار بالأسحار.. أما سيرتهم مع الناس فإنّهم يعطون الفقير والمظلوم والمحروم، ولا يريدون من هذه الدنيا ولا من لباسها شيء.. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات/ 15-22).

ويضيف القرآن الكريم صفات أخرى للمتقين، فيقول إنّهم أولئك الذين يخافون الله غائباً فيخشونه بالغيب، وتخشع قلوبهم لذكره، ويحفظون ما عهد اللهُ إليهم.. يقول تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (ق/ 31-35)، والنتيجة أنّ المتقين أهل الجنة يملكون كلّ ما تعلّقت به مشيئتهم وإرادتهم فلهم الخيار والمشيئة فيما يريدون، وهذا تكريم لا يوصف من الله سبحانه وتعالى..

ويتطرّق القرآن الكريم إلى ثبات المتقين يوم القيامة في موقع آمن تحيط بهم الجنان الخضراء والعيون الجارية والحور العين ملائكة الجنة الجميلات "وهنّ غير نساء الدنيا الداخلات في الجنة"، هذا المكان الآمن في طرف، والمجرمين والكافرين في طرف آخر حيث العذاب الأليم والخزي الكبير.. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الدخان/ 51-57). والآية تؤكد على أنّ حياة الجنة أبدية خالدة، حيث لا موت فيها ولا فناء، والموتة الأولى في الآية تعني موت الدنيا.. والواقع أنّ الإنسان إذا فاز في الحياة الأخرى فإنّه حقاً فوز عظيم، وكيف لا، وإنّ الحياة الأخرى لا نهاية لها، فإمّا نعيم مستمر، وإمّا عذاب لا نهاية له.. (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم/ 34-36)، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص/ 28).

في يوم القيامة – كما يصوّر القرآن الكريم – ترى الناس يتنازعون فيما بينهم، كلٌّ يتهمُ الآخر، ويلومه على دعوته إلى الضلال، فالأخلّاء والأصدقاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو باستثناء المتقين. وهذا الاستثناء حاصل حتى في الحياة الدنيا، عندما تشتد الأمور وتضيق الحال فترى المتقين متعاضدين متآخين، يجمعهم الإيمان بالله والسير نحو مرضاته.. وغيرهم يلوم أحدهم الآخر.. يقول تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) (الزخرف/ 67-73). وفي الخطاب القرآني الكريم تأمين للمتقين من وقوع المكاره وموارد الحزن، خاصة وأنّ فيها أقصى ما يتمتع فيه الإنسان، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وفي حديث الرسول (ص): "إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب، وذهبت الأخوّة إلّا الأخوة في الله وذلك قوله: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ)".

إنّ المؤمنين المتقين الذين ارتكبوا المعاصي والآثام قبل إيمانهم سيكفّر الله عنهم سيئاتهم، ويغفر لهم ذنوبهم، ويجزيهم أجرهم بإيمانهم وأعمالهم وإحسانهم.. ولذلك ذكر القرآن الكريم: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزّمر/ 33-35)، (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) (الفرقان/ 15-16).

لقد دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى تقوى الله وإلى ذكر الله في كلّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان، ودعا المؤمنين إلى أن لا ينسوا الله فينسون أنفسهم، ولينظروا إلى أعمالهم التي تدور على ضوئها عجلة الحساب يوم القيامة، وإن كانت غير ذلك، فليراجعوا أنفسهم ويتداركوها بالتوبة والندم، فإنّ النظر إلى ما قدّمت النفس من شيء إلى يوم القيامة، كمحطة الفحص في الحياة، فإن كانت المادة المفحوصة جيدة أخذت طريقها إلى الناس، وإلّا فالأولى إعادة تركيبها.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 18-19). إنّ ذكر الله سبحانه في النفس البشرية أحصن وأمنع جدار يمكن أن يحيط به الإنسان قلبه، خاصة وأنّ ذكر الله طمأنينة للقلب كما قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، وقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (الأعراف/ 205-206)، وقال تعالى: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (السجدة/ 38)، أمّا عاقبة الذين ينسون الله وينسون أنفسهم فيتخيلون أنّهم حياة وقدرة وعلم وكمال مستقل عن وجود الله، فإنّ مصيرهم نسيان الله لهم، وعزلتهم عن النصير ومأواهم النار وبئس المصير.. (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الجاثية/ 34).

ويبقى الهتاف الرباني الخالد خير مرشدٍ للبشرية في مسيرتها الشائكة المتقدمة نحو اليوم المعلوم.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13)، فالتقوى هي الموصل إلى رضوان الله، وهي المعين الذي يتسلق به الإنسان جدران المعاصي لينطلق في رحاب الله حيثُ الجنان والنعيم والحياة التي لا تنطفىء والشريان الذي لا يموت..►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية

ارسال التعليق

Top