(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30).
كرّم الله الكائن البشري بمركز متميّز عن باقي المخلوقات الكونية وشرفه بالخلافة على الأرض، ومنحه القيمة الإنسانية، والتي هي أساس البقاء البشري، بعيداً عن نوازع الغرائز الحيوانية الفتاكة، والتي لا تعرف من واقعها غير إشباع ميولها القاتلة، وإخماد حسها التسلطي الجامح.
لكن هذه الحقيقة الجديرة بالاعتزاز غير واضحة المعالم في بداية خلق الإنسان، وطبيعة تكوينه الفسيولوجي، إنما العكس هو المعروف، نظراً لحيوانية الكائن الأرضي. ومن هنا جاء تساؤل الملائكة من خالقها عن طبيعة المخلوق الجديد، الذي هو الإنسان، وعن سلوكه: الإفساد في الأرض، وسفك الدماء، فكان هذا التساؤل المحفوف بالمقارنة بين الجنسين: الإنسان والملائكة.
فالأوّل: طبيعته الإفساد في الأرض، وسفك الدماء، وهما خصيصتان ليس للإنسانية فيهما أي مسرب، وللشر فيها مفاصل.
والثاني: التسبيح، والحمد، والتقديس لله، وكلّها خصائص سامية لها ارتباط بالخير وإبعاد عن بؤر الشر.
ولكن الله سبحانه وضح الجواب بقوله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ). هذا الواقع الإنساني قد يخفى على الملائكة وعلى غير الملائكة ولا يعرفه إلّا الله سبحانه، فهو حين خلق الكائن البشري ليُوجد به المجتمع الإنساني، ويُحيي به الأرض، اختاره خليفة عليها ليحقق الأهداف العليا التي يُريدها لعباده، وسعادة مجتمعه.
ولما كان هذا الكائن البشري هو المختار من بين مخلوقاته للخلافة التي توفر العدالة، والسعادة، والأمن لبني الإنسان فلابدّ أن يضفي على هذا المثل شيئاً من صفاته، ومنها الإنسانية التي تمثل الكمال من الخير، والرحمة، والمحبة، ومن هنا نعرف معنى قول رسول الإنسانية محمّد (ص): "إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق". وبالأخلاق يسود الإنسان، ويعمر المجتمع، وتسعد الأُمّة، ويصلح الحال، نظراً لكون مفهوم الأخلاق أوسع من أن يحد.
إنّ الدين دستور الله سبحانه للإنسان في كلّ مجالات حياته الخاصّة والعامّة، فليس من اللطف الإلهي أن يخلق هذا الكائن ولا يضع له منهاجاً لحياته، وبناء مجتمعه. والدين حيث يكون رسالة سماوية، طبيعي أن يتضمن كلّ أغراض البناء الإنساني، ليربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان، وحب الذات المتركز في فطرته.
وبتعبير آخر: "إنّ الدين يوحّد بين المقياس الفطري للعمل وللحياة، وهو حب الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة ليضمن السعادة والرفاه والعدالة". قال رسول الله (ص): "جعل الله سبحانه مكارم الأخلاق صلة بينه وبين عباده. فحسب أحدكم أن يتمسك بخلق متصل بالله".
وهذا الدين الذي يستطيع أن يوحّد بين المقياسين، الفطري والعملي، لابدّ له من مبلِّغ ورسول يعي هذه الحقيقة الأساسية في الحياة، ويعمل من أجل التوفيق بين ذاتية الإنسان والقيم، أو الدوافع الاجتماعية. كما لم يتأثر بالمصالح الشخصية، أو العاطفية، أو المشاعر التي تدفع به إلى الانسياب وراءها بحيث تسبب له الانحراف عن المهمة التي بعث إليها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الأحزاب/ 45).
ولا شكّ أنّ الخلافة التي أشار إليها الله سبحانه في الآية الكريمة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً...) لم يقصر حصر الخلافة على شخص آدم (ع)، بل لكلّ خليفة يختاره الله، من الجنس البشري كلّه، كما لم تقتصر على فئة دون فئة، إنما الامتداد التاريخي للبشرية جمعاء، بداية من خليقتها إلى هذه الدنيا، وهذا الإنسان هو المكلف برعاية الكون، وتدبير أمر مجتمعه والسير به في الطريق المرسوم له من الله.
والإسلام هو خاتم الديانات، وقد اختاره الله سبحانه لعباده، جعل فيه قابلية الديمومة والاستمرارية للحياة، منسجماً مع تطورها المعقول وحاملاً كلّ مقومات الإنسانية التي هي أساس الدين، والتي ترمي إلى رعاية الفرد، والجماعات، وبناء المجتمع الإنساني وفق المقياس الخلقي، الذي يتحلى برضا الله سبحانه ليوجه الناس إلى الحقّ، والعدل، والكرامة، والخير، وإبعاد النزعة الذاتية والمصالح الشخصية من القاعدة المركزية للتشريع، ولذا يفسر الإسلام على أنّه "عقيدة: معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدود، ويضع لها هدفاً أعلى من ذلك الشوط، ويعرفها على مكاسبها منه". وفي هذا الضوء المشرق دعا رسول الله (ص) إلى الإسلام، ومن هذا المنطلق الإنساني أقام دولة حضارية عالمية، رسمت خط الحياة ونظامه في اتجاهين:
1- تربية الإنسان على أساس من الكيان الخلقي، وصهره بهذا الخصيصة التي تبعده من جذور الشر ومستلزماته، كالظلم، والاعتداء وغيرها من سمات هذا الانحراف الخطير.
2- صيانته من الانحراف بوضع خطوط عريضة من العقوبات المتنوعة التي تردع الإنسان من الانزلاق في المهاوي الشريرة.
وكلّ هذا بعد تهيئة المستلزمات الحسية للإنسان في معرفة الخير من الشر، وتحديد سماتها بالعقل المسؤول في اختيار أحد السبيلين، إما إلى جنة، وإما إلى نار: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3). حيث لا يمكن لله سبحانه أن يحاسب أحداً وهو لم يهيئ له مقومات الإدراك، والتفكر في هذه الحقيقة، لأنّها تصطدم مع طبيعة اللطف الإلهي: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...) (الأنعام/ 12).
وحين يكون الإنسان واعياً لهذه الحقيقة، مدركاً بإيمانه بالله لواقعية العدل التي هي إحدى صفاته الأساسية، حينذاك يمكن أن يبني نفسه نحو إنسانيته الأصلية التي تجرده من نزعاته الخارجية، وتصقله نحو التكامل لأنّ الله يريد له الكمال، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل/ 118).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق