د. عائض القرني
الله يحب أولياءه. وعلى العبد وجوب حبه سبحانه لكمال جلاله وتمام جماله وغاية كماله، وحسن أسمائه وصفاته وأفعاله، وأنّه محبوب لإحسانه وبره وامتنانه وأياديه وجميل معروفه عزّ وجلّ.
الحب ماء الحياة، وغذاء الروح، وقوت النفس، تعطف الناقة على حوارها بالحب، ويرضع الطفل ثدي أمه بالحب، وتبني الحمَّرة عشها بالحب، بالحب تشرق الوجوه، وتبتسم الشفاه، وتتألق العيون، بالحب يقع العناق والضم والوصال والحنان والعطف، الحب قاضٍ في محكمة الدنيا، يحكم للأحباب ولو جاروا، ويفصل في القضايا لمصلحة المحبين ولو ظلموا، بالحب وحده تقع جماجم المحاربين على الأرض كأنها الدنانير لأنهم أحبوا مبدأهم، وتسيل نفوسهم على شفرات السيوف لأنهم أحبوا رسالتهم، أحب الصحابة المنهج وصاحبه، والرسالة وحاملها، والوحي ومنزله، فتقطعوا على رؤوس الرماح طلباً للرضا في بدر وأحد وحنين، وهجروا الطعام والشراب والشهوات في مهاجر مكة والمدينة، وتجافوا عن المضاجع في ثلث الليل الغابر، وأنفقوا النفائس طلباً لمرضاة الحبيب.
لما أحب الخليل صارت له النار برداً وسلاماً، ولما أحب الكليم انفلق له البحر، ولما أحب خاتمهم حن له الجذع، وانشق له القمر، المحب عذابه عذب، واستشهاده شهد لأنّه مُحب.
أحبك لا تسأل لماذا لأنني **** أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
بالحب تتألف المجرة، بالحب تدوم المسرة، بالحب ترتسم على الثغر البسمة، وتنطلق من الفجر النسمة، وتشدو الطيور بالنغمة، أرض بلا حب صحراء، وحديقة بلا حب جرداء، ومُقلة بلا حب عمياء، وأذن بلا حب صماء.
ويوم ينتهي الحب يقع الهجر والقطيعة في العالم، وسوء الظن والريبة في الأنفس والانقباض والعبوس في الوجوه.
يوم ينتهي الحب لا يفهم الطالب كلام معلمه العربي المبين، ولا تذعن المرأة لزوجها ولو سألها شربة ماء، ولا يحنوا الأب على ابنه ولو كان في شدق الأسد، يوم ينتهي الحب تهجر النحلة الزهر، والعصفور الروض، والحمام الغدير، يوم ينتهي الحب تقوم الحروب ويشتعل القتال وتدمر القلاع وتدك الحصون وتذهب الأنفس والأموال، ويوم ينتهي الحب تصبح الدنيا قاعاً صفصفاً، والوثائق صحفاً فارغة، والبراهين أساطير، والمثل تراهات، لا حياة إلا بحب، لا بقاء إلا بحب، إذا أحبب شممت عطر الزهر، ولمست لين الحرير، وذقت حلاوة العسل، ووجدت برد العافية، وحصلت أشرف العلوم، وعرفت أسرار الأشياء، وإذا كرهت صارت كل كلمة عندك جارحة، وكل تصرف مشبوه، وكل حركة مشكوك فيها، وكل إحسان إساءة، المحب هجره وصال، وغضبه رضا، وخطيئته إحسان، وخطؤه صواب.
ويقبح من سواك الفعل عندي **** وتفعله فيحسن منك ذاك
والرب عزّ وجلّ يحب أصنافاً من العباد وأنواعاً من الأقوال والأحوال، فهو يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنّهم بنيان مرصوص، ويحب أتباع رسوله (ص) لقوله تعالى (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران/ 31). وذكر عن عباده الصالحين أنّه يحبهم ويحبونه. وقد صح أنّ الرسول (ص) قال في خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فأعطاها علياً رضي الله عنه.
ولما جلد شارب الخمر في عهده لعنه أحد الناس، فقال: "لا تلعنه، فإني ما علمت إلا أنّه يحب الله ورسوله" فأثبت له أصل الحب مع وجود المخالفة.
فالله عزّ وجلّ يُحِب ويُحَب، فمن فعل مراضيه واجتنب مساخطه، واتبع رسله، وآمن بكتبه، وجاهد في سبيله، وعمل ابتغاء مرضاته، وأخلص له السعي، وناصره، وعظم حرماته، ووقر شرائعه، واحترم شعائره، أحبه وقربه، وتولاه وأسعده، ورفع درجته، وأعلا منزلته، وأكرم مثواه، وأصلح باله، وعظم أجره، وشرح صدره، ووضع عنه وزره، ورفع ذكره.
فالواجب على العبد الفقير الضعيف الفاني أن يحب ربه الغني القوي الباقي، ولذلك بلغ حب الصالحين لربهم أعلى المنازل، فسيد الصالحين وصفوة الأولياء يقول: "والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثمّ أحيا ثمّ أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُقتل".
وقال وهو في سكرات الموت: "بل الرفيق الأعلى"، وهذه أصعب المنازل وأشق المواقف ومع ذلك جرد الحب كله لمولاه وخالقه.
المصدر: كتاب (العظمة)
ارسال التعليق