- مخاوف فتح الصندوق:
هناك مخاوف عدة من جراء فتح الصندوق المليء بالأسرار، وأهم المخاوف هي أنّه ربّما تستخدم تلك المعرفة الجينية البالغة التعقيد في إيذاء البشر؟ فعلى سبيل المثال، إذا تم كشف تلك الخريطة البالغة الأهمية عند البشر، فتلك المعلومات يمكن لها أن تمنع إنساناً من العمل خوفاً من إصابته مستقبلاً بمرض ما. وكذلك الحال في التأمين على الصحة، والتعليم وكل جوانب الحياة، فهناك هيئات اقتصادية عدة تعتبر أن احتمال إصابة موظف ما بمرض من الأمراض ولو مستقبلاً يعطيها الحق في رفض تعيينه، أمراض كثيرة يمكن الآن التنبؤ بإمكان حدوثها في المستقبل، فهل يحق للشركات أن ترفض عاملاً لأسباب "جينية"؟ أم أنّ الأمر يدخل في إطار "التمييز الجيني"؟ هل يعتبر ذلك تعديا على حقوق الإنسان من زاوية أنّه نوع من أنواع التمييز؟ ولأنّ البشر ينظرون للمعلومات الخاصة بالجينات على أنها دقيقة وحتمية، وبالتالي لا يمكن تغييرها، وهذا الاعتقاد الراسخ بحتمية ودقة الطب الجيني يحمل في طياته إحساساً بالعجز أمام حقائقه التي لا مناص منها، والتتابع الخاص بالحمض الأميني ليس كتاباً للحياة، بل الصحيح هو أنّ البشر يمثلون في خصائصهم حاصل جمع عوامل كثيرة، فكأنّ البيئة والأسرة والضغوط التي يتعرض لها الإنسان بالمرض. وصحيح أنّ الحامض النووي يستخدم الآن في التعرف على هوية الأشخاص بدقة بالغة (البصمة الوراثية) خاصة في قضايا الطب الشرعي، ويعتمد تحليل الحامض النووي على بعض التراكيب التي توجد في الخريطة الوراثية للإنسان "الجينوم" التي تتميز بالتكرار لعدد لا محدود وتختلف من شخص لآخر وبفحص أكثر من موقع جيني للإنسان الواحد تزيد كفاءة التحليل، فحين يتم فحص تسعة مواقع أو أكثر تقترب نسبة كفاءة الفحص من 100%.ويتم تحليل البصمة الجينية عن طريق الحصول على عينة بيولوجية من جسم الإنسان الراد الكشف عن هويته مثل عينات الدم أو خصلة الشعر – بشرط وجود البصيلات بها – أو جزء ضئيل جدّاً من العظام أو الأظفار وغيرها. وعن طريق الأجهزة الأوتوماتيكية يتم فصل العينة خلال ربع ساعة فقط، ويتم التعرف على البصمة خلال هذا الزمن الوجيز عن طريق أشعة الليزر، وتضاهى النتيجة على أي مرجعية للشخص للتأكد من هويته، كما أنّ هذا التحليل يمكن إجراؤه يدوياً ويمكن استخدام هذا النوع من التحاليل في قضايا إثبات البنوة، وكذلك قضايا الجنسية والهجرة التي تحتاج إليها السفارات، كما يمكن لكل الدول أن تسجل لمواطنيها قاعدة بيانات كاملة تفيد في التعرف على الجثث أثناء الحوادث والكوارث التي تخفي الكثير من المعالم البشرية.
تتابعت محاولة فهم الجينوم البشري (الكتاب الوراثي للإنسان)، وهناك مشروع للجينوم البشري يحاول فك رموز تلك الشفرة البالغة التعقيد. في عام 1953 نشر جيمس واطسون وفرانسيس كريك أهم الإنجازات الوراثية على الإطلاق، حيث وصفا فيه التركيب الثلاثي الأبعاد للدنا، المادة الأولية للوراثة، وكانت هذه نقطة البداية لهذا العلم بالكامل، حيث أدرك العلماء من ذلك اليوم أن أبجدية الشفرة الوراثية مسجلة بالكامل من تلك القواعد الأربعة، وأنّ الجينات ما هي إلا مقاطع من الدنا تحمل تلك الشفرات الخاصة بكل إنسان.
الهدف كان دائماً تعقب الجينات الخاصة بأمراض الإسان، وكان الفتح الأوّل هو النجاح في تعقب: الجين المسبب للمرض الوراثي لمرض هنتنجتون (نسبة لمكتشفه الطبيب الأمريكي جورج هنتنجتون) وهو مرض وراثي نادر يصيب في الغرب واحدا من كل مائة ألف ويظهر أثره القاتل على الفرد حتى إذا حمل في جينومه نسخخة واحدة منه فقط، وتبدأ أعراضه في الظهور في سن يتراوح بين 35 و45 عاماً وتستمر الأعراض فترة 20 عاماً تقضي فيها على المريض وتبدأ الأعراض بالاكتئاب ثمّ بانعدام التحكم في الجهاز الحركي ومن ثمّ يصاب المريض بتدهور عقلي واضطراب عاطفي ثم اكتئاب انتحاري ويتحول إلى هيكل محطم وغير عاقل. وقامت نانسي ويكسلر باكتشاف الجين المسبب بعد رحلة طويلة بدأت في عام 1981. وفي عام 1983 تم التعرف على المنطقة التي تحمل الجين وعرف تركيب الطفرة المسببة للمرض في عام 1993. وكانت تلك هي البداية الحقيقية لقطف ثمار التقدم العلمي في هذا المجال. وفي سبتمبر 1988 تم تشكيل المجلس التأسيسي لمنظمة الجينوم البشري HUGO من 42 من أشهر البيولوجيين في العالم كان من بينهم خمسة من حاملي جائزة نوبل. وقد بدأت المشروع في أكتوبر 1990، والهدف هو كشف سر خريطة الجينوم البشري، وهو مشروع يوازي – كما قيل آنذاك – مشروع (أبوللو) للصعود للقمر. لكن يجب أن نعلم أن اكتشاف علاج للمرض الوراثي يتطلب من 20 إلى 30 سنة بعد اكتشاف المرض أوّلاً.- خصوصية الأسرار.. وأسئلة القانون:
الكثيرون إذن يحجمون عن اكتشاف أمراضهم الوراثية، مستندين إلى منطق أنّه لا جدوى من معرفة كونك مريضاً بمرض ليس له علاج حتى الآن.. ثمّ إنّ الاختبار الوراثي ليس اختباراً قاطعاً في أحيان كثيرة. فمرض التليف الكيسي من أكثر الأمراض الوراثية في الغرب (وهو مرض يصيب واحداً من كل 2500 طفل). وهو مرض يقتل في سن مبكرة ويندر أن يعيش حامله لسن الثلاثين وهو مرض ينتج عن جين منتج أي يلزم أن يحمل الفرد منه نسختين (واحدة من الأُم وواحدة من الأب) لتظهر أعراضه. إلا أنّ الاختبار الوراثي لا يقطع بأنّ الفرد لا يحمل جين المرض لكنه يقول للمريض: أنت مصاب، لكنه لا يستطيع أن يقطع بعدم الإصابة. السؤال الأهم: ما حق الآباء وحق الحكومات في إجراء الاختبارات الوراثية؟ هل من حق الطبيب أن ينقل معلومات وراثية عن فرد من أفراد الأسرة إلى أفراد عائلته؟ إذا كان هذا يعني أن إصابتهم أو أولادهم بالمرض الوراثي واردة في المستقبل. هل توافق على إجهاض أم تحمل جنيناً مصاباً بمرض هنتنجتون أو مرض الزهايمر الذي يقتل بعد سن متأخرة؟ الكثيرون يرون أن إباحة الإجهاض لأسباب كتلك هو أمر غير إنساني، إنّه جريمة قتل. يضعنا مشروع الجينوم البشري أمام مشكلة اجتماعية حقيقية يلزم أن يناقشها المجتمع والمثقفون والعلماء والأطباء والفلاسفة ورجال الدين وحتى كل فئات المجتمع، الأمر يهم الجميع. ماذا يدفع صاحب العمل إلى تعيين أفراد يحملون في دمائهم علامات وراثية تنبئ عن مرض قادم؟! إنهم يحملون جينات معطوبة فهل يحق له أن يكتشف ذلك دون إذن منهم؟ هل ستتم إذن تفرقة وراثية، إنها قد تحمل نوعا أيضاً من التفرقة العنصرية؟ أصحاب العمل وشركات التأمين يقولون إن ذلك يدخل تحت بند الأمراض ومن حقهم أن يراعوا المرض أثناء التعيين؟ إنّه صندوق التعقيدات الجديد الذي يحمل في طياته كثيراً من الأسئلة، وهذا بالضبط وقت طرح الأسئلة على كل القطاعات: الأطباء ثمّ كل فئات المجتمع من عاملين ورجال دين وعلماء اجتماع بل وكل الفئات. من الطبيعي أن يكون من واجب الطبيب أن يحافظ على خصوصية المريض وأسراره الطبية، لكن هذه الخصوصية ليست مطلقة في كل الأحوال. ففي الستينيات من القرن الماضي، توفي أحد الرجال من مرض سرطان القولون، وبعده بخمس وعشرين سنة مرضت ابنته بالمرض نفسه، وحين عادات الابنة لملف والدها الطبي اكتشفت التشابه الكامل بين حالتها المرضية القابلة للتحول للسرطان وحالة والدها Diffuse Adenomatous Polyposis Coli وهي حالة من الحالات التي يتم اكتشافها وعلاجها مبكراً قبل أن تتحول إلى سرطان قاتل، وحين عرض الأمر على المحكمة في الولايات المتحدة أدانت المحكمة الطبيب، حتى لو اعترض الأب، رغم طفولة المريضة البريئة فإن درء الخطر أهم للبشر. وهكذا ففي كل مجالات الطب الجيني فإن درء الخطر عن كل البشر هو القاعدة، أي حماية وبكسر طوق السرية المفروض على خصوصية المريض لا يمنع الطبيب من حماية المجتمع، تحذير الأقارب إذن هو الأقل خطراً من ناحية القانون، الذي يحمي الأطباء في هذه الحالة. ويبقى أن مجمل الأسئلة المطروحة على طب المستقبل يستلزم حواراً بين كل الأطراف للخروج بإطار شامل يرضي كل الفئات، ويحمي الأطباء والبشر المعنيين جميعاً بالقضية. * اختصاصي الأمراض الباطنية وباحث في أمراض الكبد من مصر المصدر: مجلة العربي/ العدد 550مقالات ذات صلة
ارسال التعليق