عاش الإمام علي (عليه السلام) عقله الَّذي اتَّسع لعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّه، الَّذي قال فيه: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، وحرّك ما أعطاه رسول الله من العلم في آفاق جديدة وإيحاءات جديدة وتجارب جديدة، حيث قال: «علَّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب». فلم يكن عليّ (عليه السلام) يحفظ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حفظ الكلمة، ولكنَّه كان يحرّك علم رسول الله في كلّ ما استحدثه الناس من قضايا ومشاكل وتجارب، ولذلك كان يحدِّق في المستقبل من أجل أن يعطي هذا العلم حركيَّته وامتداده ورحابته للمستقبل، لأنّه لم يجد أناساً يفهمون علمه في مرحلته، ولذلك أطلق علمه للأجيال القادمة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «إنَّ ههنا لعلماً جمّاً (وأشار إلى صدره)، لو أصبت له حملة». ولم يصب له حملة، وكان علمه كلّه لله.
الإمام عليّ (عليه السلام) هو الإنسان الذي باع نفسه لله، فلم يشعر بأنّ هناك شيئاً للذّات في عقله، ليحرّك عقله على أساس ما يعطي الذّات ضخامة وانتفاخاً وقوّة وحيويّة بين النّاس، كما ينطلق المثقّفون والمفكّرون والأبطال من أجل أن يضخّموا شخصيّتهم لخدمة أطماعهم وأحلامهم. وهكذا كان قلب عليّ (عليه السلام) في كلّ نبضاته، وفي كلّ خفقاته، فلم ينبض قلبه إلاّ بحبّ الله، حتى إنه عندما كان يفكّر في النار، فإنّه، وهو البعيد كلّ البعد عنها، لم يكن يفكّر في لذعاتها ولا في لهيبها، ولكنه كان يفكّر في الله ويخشى أن تحجبه عنه تعالى: «فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي، صبرتُ على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟».
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمه ويربّيه ويحدّثه، وكان عليّ (عليه السلام) يقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الفترة: «ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره». وكان عليّ (عليه السلام) يعيش ذلك، وعندما بعث الله نبيّه بالرّسالة، كان عليّ (عليه السلام) يختزن روحيّة الإسلام التي اختزنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث بالرسالة، لأنَّ الله سبحانه كان يعدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يُبعث للرّسالة التي تمتدّ للحياة كلها، وهي رسالة تختلف عن الرسالات كلّها، لأنه ما من رسول إلا ولرسالته حدّ معين من الزمن من بعده، ليأتي رسول آخر فيبدأ رسالة جديدة، ولكنَّ الله أعدّ لرسوله رسالةً تمتدّ مع الحياة من بعده إلى قيام السَّاعة، (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب/ 40)، وهو القائل: «لا نبيَّ بعدي».
لقد علّمنا (عليه السلام) أنّه عندما تنطلق في ساحة صراع، وعندما تتحرّك مع النّاس الذين يصارعونك وتصارعهم، ويسابقونك وتسابقهم، حاول أوّلاً أن تقف بين يدي الله لتقدّم إليه حساب دوافعك قبل أن تتقدَّم إلى الناس ببيانك: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا»، ممّا تحدّثنا به وممّا حاربنا وممّا سالمنا، «منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام»، ليست الدّنيا همّنا فيما انطلقنا به، وليست الدنيا قضيّتنا فيما طالبنا به، وليست الدّنيا كلّ شيء عندنا فيما اتخذناه من مواقف، «ولكن لنرد المعالِم من دينك»، حتى ننطلق في الخطِّ الواضح الذي تتحرّك فيه هذه المعالم التي تشير إلى عقيدة هنا ومفهوم هناك وشريعة هنالك «ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المُعَطّلة من حدودك». ثم قال وهو يعبّر لله عن أنّه كان منذ البداية معه، وهو في الطّريق معه أيضاً، وسيكون في نهاية المطاف معه: «اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلاّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصّلاة»،لاوهكذا كان مع الصّلاة والمصلّين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق