◄ في إطار هذا المنظور الرحب الواسع، يمكن أن نقول، إنّ الثقافة العربية الإسلامية، ثقافة القوة والبأس، لا ثقافة الضعف والبؤس. والقوة تؤدي إلى النظام والانسجام والتناغم، في حين أنّ الضعف يتسبّب في الفوضى والصراع والتصادم. ومن ثمّ كانت الثقافة العربية الإسلامية، ثقافة الحوار والتفاهم والتواصل، ولم تكن قط لتنأى عن التلاقح والتمازج والتداخل. في حين كانت جميع الثقافات التي تنتسب إلى الأمم والشعوب القديمة، تنزع نحو الانعزال والانغلاق، وتصطبغ بصبغة العرقية والعنصرية، ولم تكن على الإجمال، ثقافةً متفتّحة، قابلةً للأخذ والعطاء.
إنّ الثقافة قوة فاعلة من قوى البناء الحضاري في مدلوله الشامل، الفلسفي والأدبي، السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والتنموي. والثقافة طاقةٌ للإبداع في شتى حقول النشاط الإنساني، ثم إنّ الثقافة البانية الهادفة الفاعلة، لابدّ وأن تكون في خدمة السياسات التي تتجه نحو ترقية وجدان الإنسان، وتهذيب روحه، وصقل مواهبه، وتوظيف طاقاته وملكاته في البناء والتعمير، والتي تعمل من أجل تحقيق الرقيّ والتقدّم والرخاء والازدهار.
ولا يتأتّى للثقافة أن تمتلك القوة والمناعة، وتنهض بهذه المسؤولية على الوجه المرغوب فيه، إلّا إذا توفّرت لها ثلاثة شروط تعتبر من مصادر القوة في الثقافة العربية الإسلامية، ومن أسس النهضة الثقافية، ومن العناصر الأساس لبنية الثقافة العربية الإسلامية:
أوّلاً: أن تكون الثقافة ذات مرتكزات تستند إليها ومبادئ تقوم عليها، فلا تكون ثقافة منبتّة الجذور، لا هوية لها تُعرف بها، ولا خصائص لديها تميّزها.
ثانياً: أن تكون الثقافة ذات أفق مفتوح ورؤية شاملة، لها قابليةٌ للتفاعل مع الثقافات الأخرى، ولها استعدادٌ كامنٌ في أصولها للتعامل مع الثقافات الإنسانية من هذه المنطلقات.
ثالثاً: أن تكون الثقافة ذات منحى إنساني تتخطّى به المجال المحلي أو الإقليمي، إلى الآفاق العالمية، من دون أن ينال ذلك من خصوصيتها، أو يؤثّر في طبيعتها، فتكون بذلك ثقافة تواصُل بشري، وتحاورٍ إنساني، وثقافة تفاهم يؤدّي إلى التعايش بين الأمم، وثقافة تعاونٍ يحقق التضامن بين الشعوب.
بتوافر هذه الشروط، لا تكتسب الثقافة العربية الإسلامية القوة والمناعة فحسب، ولكنها تكتسب إلى ذلك القدرة على السموّ والرقيّ، لأنّ الثقافة القوية القادرة على البناء، هي تلك الثقافة التي تسمو بالإنسان إلى المقام الأرفع والمكانة الأسمى. وكما يقول الرئيس علي عزت بيجوفيتش، فإنّ حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع، ومعنى الثقافة، القوةُ الذاتية، أما الحضارة فهي قوةٌ على الطبيعة عن طريق العلم. إنّ الثقافة تميل إلى التقليل من احتياجات الإنسان، أو الحدّ من درجة إشباعها، وبهذه الطريقة تُوسّع في آفاق الحرّية الداخلية للإنسان. وتلك هي القوة الروحية والنفسية والعقلية التي تمكّن الإنسان أن يمارس وظائفه في الحياة على النحو الذي يرضي خالقه أوّلاً، ثم يرضي نفسه بعد ذلك.
إنّ إبراز هذه السمات والخصائص التي تنفرد بها الثقافة العربية الإسلامية، أمرٌ نراه ضرورياً في سياق الحديث عن الثقافة العربية والثقافات الأخرى، سواء أكان القصدُ من هذا الموضوع هو المقارنة التي تعنى بيان أوجه الأشباه والنظائر، وكشف نواحي الالتقاء والافتراق، أم رسم حدود العلاقة التي يفترض أن تقوم بين الثقافة العربية الإسلامية، وبين الثقافات الأخرى.
وفي كلتا الحالتين، فإنّ المنطلقات الأساس في البحث عن مصادرة قوّة الثقافة العربية الإسلامية، وعن خصائصها، ووظائفها، ورسالتها وأهدافها، ومظاهرها، تستند إلى ثلاث أسس:
الأساس الأوّل: إنّ الثقافة العربية الإسلامية في مبادئها وأصولها، وفي مفاهيمها ودلالاتها، تعبّر عن جوهر رسالة الإسلام السمحة، فهي بذلك ثقافةٌ إنسانية بالمعنى العميق، تنفتح على ثقافات الأمم والشعوب، فتتلاقح وتتمازج وتتصاهر معها، وإنّ مصدر ثرائها وقوتها ومناعتها يكمن في هذه الخاصية التي لا يعرف التاريخ الثقافي البشري نظيراً لها.
ولقد حدّد المفكّر مالك بن نبي أربع دعائم تقوم عليها الثقافة العربية الإسلامية، هي:
أ) الدستور الأخلاقي.
ب) الذوق الجمالي.
ت) المنطق العملي.
ث) الصناعة أو (التقنية).
والثقافة التي يعرّفها الغربيّون بصورة عامة بأنّها (فلسفة الإنسان)، يحدّها مالك بن نبي بالقول إنّها: "مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمالٍ أوّلي في الوسط الذي ولد فيه". أي أنّها المحيط الذي يشكّل فيه الفردُ طباعه وشخصيته. وعلى هذا الأساس تكون الثقافة (نظرية في السلوك) أكثر من أن تكون (نظرية في المعرفة). وفي هذا التحديد يكمن الفرق بين الثقافة والعلم، فالثقافة سلوك، أما العلم فمعرفة. والثقافة بهذا المعنى وثيقة الصلة بالتاريخ وبالتربية، فليس ثمة تاريخ لأُمة بلا ثقافة، والشعب الذي فقد ثقافته قد فقد حتماً تاريخه، إذ هي الوسط الذي تتكوّن فيه خصائص المجتمع التاريخية من عبقرية وتقاليد وأذواق ومشاعر. والثقافة من ناحية ثانية، تتحدّر بمضمونها التربوي من حيث إنّها "دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوّع الاجتماعي".
وتنطوي هذه الخاصية المتفردة على عناصر القوّة في الثقافة العربية الإسلامية، وعلى مصادر الحيوية والتدفّق فيها، وعلى ما يمكن أن نعبّر عنه بالقدرات الذاتية التي تجعل منها ثقافةً قويةً متغلغلةً في البيئة والوسط، فاعلةً ومؤثّرة في الفرد والمجتمع.
الأساس الثاني: إنّ الثقافة العربية الإسلامية، في عمقها وجوهرها، ثقافة تدافعٍ، لا ثقافة تصارُع، فالتدافع هو سنةُ الحياة، أما التصارع، أو الصراع، فهو مفهومٌ يعود إلى التراث الإغريقي والروماني والهلِّيني الذي عرف أساطير صراع الآلهة، ولا يعبّر عن الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية. وهذا أيضاً منبع من منابع القوة والحيوية والقدرة على الحضور في ساحة التنافس الثقافي، لأنّ التدافع الثقافي مصدر قوّة، في حين أنّ التصارع، أو الصراع الثقافي، يؤدّي إلى إضعاف الذات، والنيل من القدرات والملكات، ويسير في اتجاه معاكس للغايات الإنسانية النبيلة.
وليس عزوف الثقافة العربية الإسلامية عن الصراع، ضعفاً في تركيبتها أو خللاً في عناصرها الأساس، ولكنه عنصر تحضّرٍ فيها، وعلامة نضج ووعي، ومظهرُ صحّة. ومن المؤكد أنّ خاصية النزوع نحو التدافع بدلاً عن التصارع، هي التي مكّنت الثقافة العربية الإسلامية من الصمود أمام الأعاصير الثقافية والفكرية والمذهبية التي واجهتها عبر العصور.
الأساس الثالث: إنّ كثيراً من جوانب الثقافة العربية الإسلامية، في أوضاعها ومستوياتها ومظاهرها وصورها الحالية، لا تعبّر عن هوية المجتمع العربي الإسلامي، لأنّها جوانب يعتريها الضعف من كلّ النواحي، ولأنّ هناك تفاوتاً ظاهراً بين المنابع وبين البدائع، ونقصد بذلك أنّ أساس هذه الجوانب ليس مستمداً في مجمله من المنابع الأصلية، وأنّ هذه الظاهرة هي مصدرُ الضعف العام في الثقافة العربية الإسلامية في المرحلة التاريخية الراهنة.
إنّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة اجتهاد وإبداع مستمرين في إطار الضوابط الشرعية والقيم الخلقية التي تُميّز حضارة الإسلام، وتعبّر عن هوية الأُمّة. لذلك فإنّ عطاء هذه الثقافة، عطاءٌ متجدّد بتجدّد الأحوال واختلاف القضايا والأفعال.
ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا فنحسب أنّ الثقافة هي إبداعٌ وابتكارٌ في المقام الأوّل، وأنّ قوّة الإبداع تنبع من عقل الإنسان المثقف المبدع ومن خياله ووجدانه، وأنّ لا صلة لذلك كلّه بالقيم والمقوّمات. إنّ هذا وَهْمٌ من جملة الأوهام التي تسود حياتنا العقلية وأجواءنا الثقافية. إنّ الثقافة العربية الإسلامية لن تقوى على مواجهة الأخطار التي تتهدّدها والتحديات التي تواجهها، إلّا إذا استمدت قوّتها من جذورها وأصولها، ومن قيم الأُمّة ومقوّماتها. وليس في ذلك أي نوع من الحجر على الإبداع، أو القيد على التفكير والتعبير. ►
المصدر: كتاب الحوار من أجل التعايش
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق