• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصداقة أفضل العلاقات الإنسانية

خليل حنا تادرس

الصداقة أفضل العلاقات الإنسانية
◄تعريف الصديق:

لفظ الصديق من الناحية اللغوية من الصدق وهو خلاف الكذب، يقال: رمح صَدْق أي: صلب، وعلى الوجهين الصديق يصدق إذا قال، ويكون صَدْقاً إذا عمل.. وصدقة المرأة وصداقها وصداقتها كلّه منتزع من الصِدْق والصَدْق، وكذلك الصادق والصديق والصدوق والصدقة والمصدق والمتصدق..

يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) صديقك من صَدَقَكَ لا من صَدِّقَك؛ وسمي الصديق صديقاً بعد ذلك، والعدو عدواً لعدوه عليك لو ظفر بك.. والصديق يكون واحداً وجمعاً ومذكراً ومؤنثاً.

ويقول (أبو حيان التوحيدي): "قيل لأرسطاطاليس الحكيم معلم الإسكندر مَن الصديق؟

فقال: إنسان هو أنت إلّا أنّه بالشخص غيرك.

ثمّ يقول التوحيدي: سُئل أبو سليمان عن هذه الكلمة قيل له فسرها لنا فإنّها وإن كانت رشيقة فلسنا نظفر منها بحقيقة. فقال: هذا رجل دقيق الكلام بعيد المرامي صحيح المعاني.. وإنما أشار بكلمته هذه إلى آخر درجات الموافقة التي يتصادق المتصادقان بها.. ألا ترى أنّ لهذه الموافقة أوّلاً منه يبتدئانها، كذلك لها آخر ينتهيان إليه.. وأوّل هذه الموافقة توحد وآخرها وحدة. وكما أنّ الإنسان واحد بما هو إنسان كذلك يصير بصديقه واحداً بما هو صديق، لأنّ العادتين تصيران عادة واحدة، والإرادتين تتحولان إرادة واحدة، ولا عجب فقد أشار إلى هذه الغريبة الشاعر بقوله:

روحه روحي وروحي روحه *** إن يشأ شئت وإن شئت يشا

وهذا التعريف للصداقة يتيح لنا أن نميزها عن بقية العلاقات الإنسانية الأخرى التي قد تشترك معها في بعض المظاهر كعلاقات العشق والقرابة، وقد رفع الكُتّاب العرب الصداقة إلى أسمى مكانة بحيث فضلوها على أيّة علاقة أخرى.

فأبو حيان التوحيدي يعلن على لسان أبي سليمان أنّ الصداقة أفضل من العلاقة لأنّها أذهب في مسالك العقل وأدخل في باب المروءة وأبعد عن نوازي الشهوة وأنزه عن أثار الطبيعة.. أما العلاقة فهي مرض أو كالمرض ليس للعقل فيها ظل.

والصداقة تقوم على أساس كرم العهد وبذل المال وحفظ الذمام وإخلاص المودّة ورعاية الغيب وتوفر الشهادة ورفض الموجدة وكظم الغيظ واستعمال الحلم ومجانبة الخلاف واحتمال الكلّ وبذل المعونة وحمل المؤونة وطلاقة الوجه ولطف اللسان وحسن الاستنامة –والاستنامة هي الاطمئنان إلى حسن الرأي – والثبات على الثقة والصبر على الضراء والمشاركة في البأساء. والعلاقة وإن كانت تستعير من هذه الأبواب شيئاً فليس ذلك لأنّه من عتادها وأساساها ولا مما لا يتم إلّا به؛ ولكنه من أجل التحسن والتزين.. لأنّ العاشق والمعشوق.. ليسا من الصديق والصديق؛ وإن كانوا يتشابهون ببعض الأخلاق ويتلاقون في بعض الأحوال.

قيل لأعرابي أبا الصديق أنت آنس أم بالعشيق؟

فقال: يا هذا الصديق لكلّ شيء، للجد والهزل وللقليل والكثير، ولا عاذل عليه ولا فادح فيه، وهو روضة العقل وغدير الروح؛ فإما العشيق فإنما هو للعين وبعض الريبة والعدول عنه من أجله سريع وفي الولوع به إفراط من جوى وحد موقوف دونه، فأين هذا من ذاك؟

وأنّك تفزع بحديث المعشوق إلى الصديق ولا تفزع بحديث الصديق إلى المعشوق.

وقد عاد أبو حيان فأكد هذه التفرقة في المقايسة الأخيرة من مقايساته حين ذكر أنّ (الحسن بن وهب) المولود في بغداد (186) هجرية والمتوفى في الشام قرابة (247) هجرية قال: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة... ثمّ يعلق على ذلك بقوله: فهذا فاضل قد أحس كمال الصداقة لأنّها مؤثرة بالعقل ومجراة على أحكامه ومحمولة على رسومه، فأما العلاقة فهي من قبيل الحسن والطبيعة عليها أغلب وآثارها فيها أبقى.

وكما تفضل الصداقة العشق فإنّها تفضل القرابة.. فيقرر أبو حيان أنّ ذوي القرابة تحفزهم أغراض كثيرة من الحسد والغيرة والتنافس وهذه الأغراض لا تعتري الإنسان في البعيد النسب والبلد واللغة والصناعة والخلق.

قيل لأعرابي مَن خلفت وراءك قال: خلفت والداً ووالدة وأختاً وابن عم وبنت عم وعشيقاً وصديقاً. قيل له: فكيف حنينك إليهم؟ قال: أشد حنين.

قيل: فصفه لنا..

قال: حنيني إلى والدي فللتعزز به فإنّ الوالد عضد وركن يعاذ به ويؤوي إليه، وأما نزاعي إلى الوالدة فللشفقة المعهودة منها ولدعائها الذي لا يعرج إلى الله مثله، وأما شوقي إلى الأخت فللصيانة لها والتروح إليها، وأما شوقي إلى ابن العم فللمكاتفة له والانتصار به، وأما ابنة العم فلأنّها لحم وضم، أتمنى أن أشبل عليها بالرقة أو أصلها ببعض مَن يكون لها كفأً ويكون لنا ألفاً.. وأما صبابتي بالعشيق فذاك شيء أجده بالنظرة والارتياح الذي قلما يخلو منه كريم له في الهوى عرق نابض وفي المجون جواد راكض؛ وأما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى من نعته لك لأني أباثه بما أُجِلَّ أبي عنه واجباً عن أُمّي فيه وأطويه عن أختي خجلاً منها وأداجي ابن عمي عليه خوفاً من حسد يفقأ ما بيني وبينه وأكنى عن بنت عمي بغيرها لأنّها شقيقة ابن العم.. فأما العشيقة فقصارى معها أن أشوب لها صدقاً بكذب وغلظة بلين لأفوز منها بحظ من نظر ونصيب من زيادة وتحفة من حديث؛ وكلّ هؤلاء مع شرف موقفهم مني وانتسابهم إلى دون الصديق الذي حريمي له مباح وسارحي عنده مزاح، أرى الدنيا بعينيه إذا رنوت، وأجد فاءتي عنده إذا دنوت. وإذا عززت له ذل لي وإذا ذللت له عز لي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلّا حافظاً للغيب ولا يتراءى لي إلّا ساتراً للعيب.

كما يقتبس أبو حيان قول هرمس: القرابة تحتاج إلى المودّة والمودّة لا تحتاج إلى قرابة.

وقد سبق أن فضل ابن المقفع الصديق حتى على الزوجة حين قال إنّ صديقك ليس كالمملوك الذي تعتقه متى شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك، فإن أنت قطعته – حتى وإن كنت معذوراً – كان ذلك بمنزلة الخيانة، وإن أنت صبرت عليه غير راض عنه كان ذلك عيباً ونقيصة. فالاتئاد الاتئاد والتثبت التثبت.

 كذلك سبق لأخوان الصفا في رسالتهم الخامسة والأربعين أن فضلوا الصداقة على جميع العلاقات الأخرى حتى الابن الذي من ظهرك، والأخ الذي من صلب أبيك وكذلك زوجتك.. لأنّ هؤلاء يحبونك من أجل منفعة تصل منك إليهم، ويريدونك من أجل مضرة تدفعها عنهم، فإذا استغنوا عنك زهدوا فيك ورغبوا في غيرك وخذلوك.. فأما هذا الأخ فليس يريدك إلّا لأنّه يرى ويعتقد أنّك إياه وهو إياك، نفس واحدة في جسدين متقابلين.

ثمة تفرقة أيضاً بين المعارف والأصدقاء يذكرها أبو حيان، فالمعارف يجمعهم الجنس المقتبس من الحيوان، وينظمهم النوع المقتبس من الإنسان، ويؤلفهم بعد ذلك البلد أو الجوار أو الصناعة أو النسب غير أنّ الجسد والتنافس لا يلبث أن يدب بينهم ويقطع علائقهم.. وتلك هي الصحبة التي رأى الغزالي فيما بعد أنّها تقع بالاتفاق وفيها يدب الحسد والتنافس بين أصحابها ويقطع علائقهم..►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة (60 طريقة لجعل حياتك أفضل)

ارسال التعليق

Top