• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

روابط المجتمع المسلم وأخلاقياته

د. محمّد السيد يوسف*

روابط المجتمع المسلم وأخلاقياته

◄أقام الإسلام العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم على روابط متينة، ومبادئ خالدة وأخلاقيات سامية، تجعل من هذا المجتمع وحدة قوية متماسكة، وأهم هذه الروابط والأخلاق: الأخوة، والمساواة، والحب في الله، والتعاون والتكافل، والتناصح، والإيثار.

وقد صاغت هذه الروابط والأخلاق السامية المجتمع المسلم صياغة عجز المصلحون أن يأتوا بمثلها أو قريب منها على مدار الزمان.

 

1-    الأخوة:

والأخوة رابطة نفسية تورث الشعور العميق بالعاطفة والمحبة والاحترام مع كلّ من تربطه وإياه أواصر العقيدة الإسلامية. قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10).

يقول القرطبي: "أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب".

ولقد كان أوّل ما فعله النبيّ (ص) في المدينة بعد بناء المسجد أن آخى بين المهاجرين والأنصار فقال لهم: "تآخوا في الله أخوين أخوين" وذلك ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، وليشد أزر بعضهم ببعض – فقويت بذلك عصبية المسلمين، وهابهم القريب والبعيد، وشعر المهاجرون بالهدوء والسعادة، وأحبوا المدينة وأهلها، وصاروا جميعاً في إخاء وصفاء. وتفانى الأنصار في حب إخوانهم المهاجرين وإكرامهم.

كما أكّد النبيّ (ص) على أخوة المسلمين ببعضهم فقال في حديثه الشريف:

"المسلم أخو المسلم...". وكان النبي (ص) يقرر هذا الإخاء ويؤكده كلّ يوم أبلغ تأكيد وأوثقه، وقد طبق الإسلام هذا الإخاء الرفيع، وأقام على أساسه مجتمعاً ربانيّاً فريداً شعاره قول النبيّ (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

وهكذا استطاع الإسلام بالإخوة الإيمانية أن يوحد بين النفوس، وأن يؤلف بين القلوب، وأن يجعل المجتمع الإسلامي على قلب رجل واحد بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو اللغة، وهذا ما أذهل العالم حين فوجئ بهذه الأُمّة الواحدة والتي تجمعت من أخلاط الناس.

 

2-    المساواة:

أقام الإسلام العلاقة بين جميع أفراده على المساواة التي لا تفرق بين غني، أو فقير، أو شريف أو وضيع، والناس في نظر الإسلام سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى. وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الناس جميعاً يرجعون إلى أصل واحد، وهو آدم (ع) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1).

وأكّد هذا المعنى رسول الله (ص) في خطبة الوداع حيث قال: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى". كما أنّ الإسلام يسوي بين جميع الناس في الحقوق العامة فلا يميز شخصاً على آخر ولا طبقة على أخرى.

والحديث هنا يوقفنا على نظرة الإسلام إلى الخدم الضعاف، لقد ساواهم الإسلام بمن يعيشون معهم من غير تفرقة ولا ظلم ولا إذلال، بل هم إخوة بكل ما تحمله الكلمة من معاني المودة والشفقة والرحمة والبر.

وبين أيدينا شهادة في هذا المضمار لأحد المستشرقين الذين تحرروا من العقد والكراهية للإسلام يقول فيها: "الإسلام هو أعظم دين في العالم؛ لأنّه يوحد الخلق ويجعلهم أمة واحدة لا فضل لعربيها على عجميها إلا بالتقوى، وطالما يعتنق الإنسان هذا الدين فإن كلّ الفروق تسقط بينه وبين أي مسلم آخر، فيصبح – مهما كان أصله – في درجة واحدة معه، وإنّ الناس في نظر الإسلام سواسية، فإنك ترى المسلمين في المساجد يصلون. الفقير إلى جانب الغني، والحقير إلى جانب العظيم، لا فرق بين مملوك أو أمير وكلهم أمام الله إخوة في الإسلام الذي لا يعرف فرقاً بين قومية وأخرى، ولا يفضل لوناً على لون".

 

3-    الحب في الله:

والحب في الله له مكان فسيح في المجتمع الإسلامي. والمتحابون في الله يتبوءون منازل الكرامة، ويبلغون درجات الصديقين.

وقد تظاهرت الأحاديث النبوية الشريفة في تباين منزلة الحب في الله:

قال رسول الله (ص): "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي".

وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه".

كما جعل النبيّ (ص) الحب في الله حلقة ضمن سلسلة تؤدي بصاحبها إلى الجنة فقال: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".

والحب في الله من أهم أسباب تحقق الإيمان وذوق حلاوته يقول في ذلك النبي (ص): "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".

وحين يكون الحب في الله صادقاً فإنّ الله تعالى هو الذي يتولى الثواب عليه، وحسن الجزاء والمكافأة بموجب قانون فضله الذي يعامل به عباده.

ومن الثمرات التي يظفر بها المتحابون في الله: أنّ الله تعالى يكافئهم على ذلك بمحبة من عنده، فيكونون من أحباب الله كما تحابوا فيه.

 

4-    التعاون والتكافل:

والتعاون والتكافل سمة المجتمع المسلم. وقد حث الله تعالى المؤمنين على التعاون على الخير والتكافل فيما بينهم فقال جلّ شأنه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).

وقد جاءت نصوص السنة النبوية مستفيضة في الدعوة إلى التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع المسلم، من ذلك قوله (ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".

وهنا يصف النبيّ (ص) وحدة الجماعة المؤمنة، وتماسك بنائهم في صورة رجل واحد. فالرجل الواحد جسد ذو أعضاء مترابطة يجمعها عصب واحد، ويديرها فكر واحد، وتحركها عواطف واحدة، ويغذيها دم واحد، وتسير جميعاً إلى غاية واحدة، فإذا نزل الألم بالبعض فقد نزل الألم بالكل على سبيل المشاركة، وإذا تمتع البعض بلذة من اللذات اشترك معه فيها الجميع بحكم الصلة الوثيقة التي تؤلف وحدة الأحاسيس والمشاعر.

وقال (ص): "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك أصابعه".

وفي هذا الحديث دعوة إلى الوحدة الجماعية بين أفراد المسلمين وفيه بيان للفائدة العظيمة التي تجنيها الجماعة من وحدتها وتماسكها، إنّها القوة التي تظفر بها الجماعة حينما يترابط أفرادها، ويشد بعضهم أزر بعض.

وفي التصوير المادي الذي فعله الرسول (ص)؛ إذ شبك بين أصابعه بعد قوله: "كالبنيان يشد بعضه بعضاً" استخدام للتمثيل الحسي بعد التشبيه الكلامي لتجسيد الفكرة المعنوية ووضعها في مثال حسي مشاهد. فكل فرد لبنة من لبنات هذا البناء، ولا ريب في أنّه إذا تضامنت هذه اللبنات وتماسكت هذه الأجزاء قوي البنيان واشتد تماسكاً، وصعبت إزالته أو النيل منه، فتضامن المؤمنين يعلي رايتهم ويضاعف قوتهم، ويرفع مكانتهم ويرهب أعداءهم.

وإذا كان الإسلام قد دعا إلى التعاون وحثّ على التكافل فإن أشد الناس حاجة إلى المعونة والتكافل هم الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل.. وأمثالهم ممن لا قيام لمعيشتهم إلا بمعونة غيرهم لهم.

وقد أفاضت السنّة النبوية في الحث على معونة هؤلاء والسعي عليهم وكفالتهم، من ذلك قوله (ص): "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل".

وقوله (ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً. ►

 

*مدرس بكلية أصول الدين والدعوة بالزقازيق

 

المصدر: كتاب منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع

ارسال التعليق

Top