• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رضا العبد بقضاء ربه

د. عمرو خالد

رضا العبد بقضاء ربه
العبادات نوعان: عبادات جوارح، وعبادات قلوب، أي عبادات تؤدى بالجوارح وعبادات تؤدى بالقلوب. وعبادة القلب أسرع إلى الله من عبادة الجارحة. عبادة الجارحة مثل القيام والصيام والصلاة والحج. أما عبادات القلب فمنها التوبة والعفو والرضا، وهي أعلى عبادات القلوب. عبادات الجوارح ثوابها له منتهى بانتهاء الجارحة من العبادة، أما عبادة القلب فليس لها منتهى، بل تكون نائماً ويسري عليك الأجر.   - ما الرضا؟ الرضا هو أن تشعر بالارتياح لما يختاره الله لك. الذي ضاق رزقه، وأحس بقلة المال، هَل يملأ قلبه بالمرارة أم يرضى برضا الله سبحانه وتعالى عنه؟ ولكن ألا يتعارض ذلك مع فكرة الطموح؟ لا. هذا لا يتعارض مع الطموح. أن ترغب وتسعى إلى تحسين أحوالك المعيشية والوظيفية، فهذا معنى مطلوب إسلامياً. لكن من داخلك أنت تشعر بالضيق، وتحس بالمرارة. لماذا لا تجد إنسانا يشعر بالرضا عن عمله؟ 90 في المئة من الموظفين غير راضين عن وظائفهم. شيء جميل أن يطور الإنسان عمله. نصف المتزوجين غير راضين عن زوجاتهم. هذه الزوجة هي القسمة التي اختارها الله لك. فكيف لا ترضى بها؟ كل هؤلاء لا يشعرون بالرضا. كذلك الذي ابتلاه الله بابن يعاني مرضاً مزمناً، والذي ابتُلي من الله بمرض شديد، أو بعاهة من العاهات. نصف الذين يركبون عربات غير راضين عن عرباتهم. الشاب المرفه يريد أن يغير التليفون المحمول، ويتشاجر مع أمه يومياً لكي تقنع أباه بشراء محمول جديد له. لا أحد يرضى عن أزيائه من البنات والشبان، أو بُعد المسافة بين بيته ومحل عمله. لا أحد يرضى عن الشقة التي يسكنها. أنت راضٍ أم غير راضٍ؟ هذه عبادة شديدة الأهمية.. عبادة الرضا. هل أنت راضٍ عن رزقك؟ كل هذه الأشياء تندرج تحت كلمة "الرزق": الزوجة رزق، والعيال رزق وأيضاً الملبس والسيارة والشقة. ولكن لماذا نشعر بالهم؟ الرد على كل ذلك، جاء في الحديث القدسي: "عبدي.. خلقتك لعبادتي فلا تلعب. وقسمت لك رزقك فلا تتعب إن قل فلا تحزن. وإن كثر تفرح. إن أنت رضيت بما قسمته لك، أرحت بدنك وعقلك، وكنت عندي محموداً. وإن لم ترض بما قسمته لك، أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموماً. وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في الفلاة، فلا يصيبك منها إلا ما كتبته لك". ابن عطاالله يقول: "إياك والهم بعد التدبير، فما قام به غيرك عنك، لا تقم أنت به لنفسك". أتت أديت واجبك، وأتقنت عملك، فلماذا تشعر بالهم؟ البنت التي لا تحمل قسمات جميلة، هل هي راضية أم غير راضية؟ البنت التي تأخرت في زواجها، هل هي راضية أم غير راضية؟ الأم التي وصلت سن ابنتها إلى 30 سنة ولم تتزوج.. هل هي راضية؟ الناس المتعبون، يقول ابن عطاالله لهم: "أرح نفسك من الهم بعد التدبير". ثمّ يقول: "فما قام به غيرك عنك، لا تقم أنت به لنفسك". الله سبحانه هو الذي قام به عنك، فلماذا تشغل به نفسك؟ أليس هو الذي قال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات/ 22-23). الأعرابي عندما سمع هذه الآية الكريمة، سأل الصحابي: ما الذي يجعل الله يقسم؟ نحن نصدق أنّ الرزق في السماء، فهل هناك عاقل لا يصدق؟ أرح نفسك من الهم بعد تدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم أنت به بنفسك، وتفرّغ للعبادة. فبدلاً من أن تقضي الليل شارد الذهن بلا نوم، تفكر في الربح والخسارة، أرح نفسك من هذا الهم، وقم لتصلي: "خلقتك للعبادة فلا تلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب.. إن قل فلا تحزن. وإن كثر فلا تفرح". إن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت بدنك وعقلك، وكنت عندي محموداً. وإن لم ترض بما قسمته لك، أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموماً. في النهاية، لن تأخذ إلا ما قسمه الله لك، ولو غير راض عما قسمه الله لك، اسمع التهديد الرباني الذي يوجع قلبك: "وعزتي وجلالي لأسلّطنّ عليك الدنيا". وإذا سلط الله الدنيا على أحد، جعله في دوامة طوال الليل والنهار. وكلما ازداد ثراؤه ازداد جشعه وسعيه إلى المال. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم عندك ما يكفيك. وأنت تطلب ما يطغيك. لا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع. إن أنت أصبحت معافى في جسدك، آمناً في سربك، عندك قوت يومك، فقل على الله العفاء". يا ابن آدم، ما أعطاه لك يكفيك. لماذا تنظر إلى ما في أيدي الآخرين؟ ما الدليل على أن عندك ما يكفيك؟ انظر إلى هاتين الآيتين: (خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت/ 9-10). قبل أن يخلق البشرية كلها، يوم خلق السماوات والأرض، قدر الأقوات التي سيرزق بها كل مخلوق حتى يوم القيامة. نقطة المطر تنزل من السماء، مكتوبة عند الله أنها ستمشي في الوادي الفلاني، ثمّ تصل إلى السهل الفلاني، ثمّ تمشي في ماسورة المياه لتصب في زجاجة بعينها، ليشربها فلان الفلاني. تنزل نقطة المطر في أحد البلاد، لتنبت منها حبة القمح، التي يتم تصديرها إلى آخر الأرض، ليأكلها شخص بعينه في رغيف الخبز. "عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك".. ألم تفكر في أنّ السيارة التي تحلم باقتنائها ربما تكون سر فسادك، أو طريق هلاكك؟ ألم تفكر في أنّ الموبايل الذي تحلم به، ربما يكون وسيلتك لارتكاب المعاصي؟ "لا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع". يقول النبي (ص): "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب، لتمنى أن يكون له واديان، ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب". وما هي إذن حدود القناعة عند بني آدم؟ إن أنت أصبحت معافى في جسدك، آمناً في سربك، تغلق عليك بابك وأنت مطمئن. فمن نعم الله علينا أننا نعيش في أمان. ففي مدن الغرب لا تستطيع المرأة أن تغادر بيتها بعد السابعة مساءً، وإن فعلت فهي تُخطف وتُغتصب وتقتل. (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4). هل فكرت يوماً في أن ترضي الله لأنّه جعلك آمناً في بلدك؟ عندك قوت يومك؟ في الثلاجة طعام يوم واحد فقط.. لو عندك هذا، فإنّه حد الكفاية الذي حدثك الله عنه. لماذا أكتفي بطعام يوم واحد، وليس طعام أسبوع؟ لأنك لا تمضن الحياة للغد. فإذا جاء الغد وأنت حي، فإنّ الذي رزقك اليوم، سوف يرزقك غداً. أفلا تشعر بالرضا لهذا؟ أحياناً، يرسل الله سبحانه رزق العام كله في شهر، ويبعث رزق الشهر في يوم واحد، ويبعث رزق اليوم في دقيقة. كن راضياً إذن عن الله، وقل: على الدنيا العفاء. قل لها: يا دنيا أنا أعفو عنك، ولا أريد منك شيئاً. ما دمتَ معافى في جسدك، آمناً في سربك، تملك قوت يومك. يقول النبي (ص): "ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً". ويقول ابن القيم: "الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا. من لم يدخله في الدنيا، لم يتذوقه في الآخرة". والذي لم يتذوق حلاوة رضا الله في الدنيا، لن يتذوقها في الآخرة. يقول النبي (ص): "من قال حين يصبح ويمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجب على الله أن يرضيه من قالها ثلاث مرات، وفي المساء ثلاث مرات، رضى عنه الله في ذلك اليوم". ويقول النبي (ص): من سمع الأذان فقال: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً غفر له ذنبه". هذا باب الله الأعظم، فلِمَ تتردد في الدخول منه؟ قل ذلك كثيراً. قل حتى يحس القلب بما تقوله. النبي (ص) كان يدعو: "اللّهمّرضني بقضائك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت". ويأتي رجل إلى رسول الله (ص). قال: "يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وتصديق برسوله، وجهاد في سبيله". قال: يا رسول الله.. دلني على شيء أهون فقال: "لا تتهم الله في شيء قضاه أبداً". وهل يمكن اتهام الله جل وعلا؟ كأن تسأله: لماذا يا ربي قبضت روح فلان؟ أو: لماذا يا ربي أمَتّ ابني؟ لا تسخط أبداً، واشعر بالرضا. كان رسول الله (ص) يدعو ربه قائلاً: "اللّهمّ إني أسألك الرضا بعد القضاء".   - ما علامات رضا الإنسان بقضاء ربه؟ هناك ثلاث علامات: 1- ترك الاختيار قبل القضاء، بصلاة الاستخارة. لا تفعل شيئاً إلا بعد صلاة الاستخارة، بدءاً من شراء الملابس وحتى الزواج أو الالتحاق بوظيفة أو السفر. أنت بهذا تفوض الأمر لله. 2- فقدان المرارة بعد القضاء بالحمد والشكر. 3- دوام محبة الله القلب عند وقوع الابتلاء. هناك نوع من الناس تقل عبادتهم بعد الابتلاء من الله. هذا من دلائل السخط على الله. هل تعطينا نماذج من الذين رضوا عن الله سبحانه بعد الابتلاء؟ النبي (ص) كان يدعو ربه: "اللّهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي". والنبي (ص)، عند موت ابنه كان عمره 62 عاماً، وكانت ذلك آخر أمل للنبي أن يكون له ولد. والنبي كان يعلم أنّ الله لا يريد أن يكون له ولد. حين ولد إبراهيم، وحمده النبي وتوجه به إلى بيوت الصحابة، يطرقها ويقول لهم: "انظروا ابني إبراهيم". كان قلبه يقفز فرحاً. وحين مات إبراهيم بكى النبي (ص)، وهذا لا يتعارض مع الرضا، وقال: "إنّ العين تدمع وإنّ القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون". وهو هنا، (ص)، جمع بين مقام الرحمة، ومقام الرضا. فالعين تدمع رحمة، والقلب راض. هناك قصة أخرى للفضيل بن عياض أحد أئمة التابعين، وكان دائم السكون قليل الابتسام. بعد 30 عاماً من حالته هذه مات ابنه، فلم يُرَ مبتسماً إلا يومها. فقالوا: عجباً.. أتبتسم يوم وفاة ابنك، وما كنت تبتسم قبلها؟ فقال لهم: أفرح برضا الله في كل الأحوال، وأجبر هذا القلب أن يرضى عن الله، فابتسمت لأجعل قلبي يرضى عن أفعال الله سبحانه وتعالى. النبي (ص) عرف كيف يجمع بين مقام الرحمة ومقام الرضا، فبكى بينما القلب راضٍ. أما الفضيل فلم يستطيع الجمع بين المقامين: الرحمة والرضا، فاضطر إلى أن يبتسم لأنّه عجز عن الجمع بين الرحمة والرضا لحظة الابتلاء. والناس عند الابتلاء، عادة، منهم من يرضى بينما الرحمة غير موجودة في القلب، وآخر قلبه مليء بالرحمة لكنه عاجز عن الوصول إلى الرضا. فأعلى الناس هو الرسول (ص) الذي جمع بين الرحمة والرضا.   وفي الختام، ما هي الجائزة التي نكافأ بها على الرضا؟ من رضي فله الرضا، يرضى عنك الله، ومن سخط فله السخط. وأعظم الرضا يوم القيامة.. ينادي الله سبحانه وتعالى: "يا أهل الجنة.. هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد بيضت وجوهنا وأدخلتنا الجنة"، فيقول الله تبارك وتعالى: "بقي شيء يا أهل الجنة؟ فيقولون: وما هو يا رب؟ فيقول أرضى عنكم، فلا أسخط عليكم بعدها أبداً".

ارسال التعليق

Top