◄من فوائد الصلاة أنّها سبب لقوة الملكة والبصيرة والذاكرة، وهذا أمر واضح مشاهد في حياة الناس المسلمين الذين يقيمون الصلاة، لا ينكره إلّا مكابر مناكر ينكر ضوء الشمس في رابعة نهار صيفي، فالصلاة طاعة لله وعبادة، وهي من أعظم الطاعات، وأحب العبادات إلى الله تعالى، ولذلك افترضها على عباده خمس مرات في اليوم والليلة ولا تسقط إلّا بالعجز الكلي عنها وذلك منذ التكليف بها.
وأثر الطاعة في قوة البصيرة والملكة والذاكرة معلوم عند أهل النظر والفكر والعلم، والفهم فالطائع لله تعالى جوارحه محفوظة سليمة بالطاعة، وتزداد سلامة وقوة مع كثرة الطاعات وكثرة الأذكار، والملكة في المسلم الطائع لربه هي الأخرى تصفو بالطاعات، وتتألق صفاءً وقوة بكثرتها، وكذلك البصيرة لأن أثر الذنوب والسيئات على جوارح الإنسان وملكته، وبصيرته أثر سيِّئ، فالنسيان ينشأ عن المعاصي والذنوب.
والذنوب والمعاصي كما يقول ابن القيِّم – رحمه الله –: "تعمي بصيرة القلب فلا يدرك الحق كما ينبغي، وتضعف قوته وعزيمته، فلا يصبر عليه، بل قد يتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه كما ينعكس سيره فيدرك الباطل حقّاً، والحق باطلاً والمعروف منكراً والمنكر معروفاً فينتكس في سيره ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت لها وغفلت عن الله وآياته، وتركت الاستعداد للقائه، ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلّا هذه العقوبة وحدها كانت داعية إلى تركها والبعد منها والله المستعان، كما أنّ الطاقة تنور القلب وتجلوه وتصقله وتقويه وتثبته حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيمتلئ نوراً".
كذلك للطاعة نوراً في وجه صاحبها في الدنيا والآخرة، فالطاعة تنير بصيرة القلب، وتطلق نوره، وتفتح طرق العلم، ومواد الهداية، وتقوي الملكة. وحين تكون الطاعة طاعة متكررة في كل يوم وليلة من حياة صاحبها فإن آثارها، وبركاتها، وأسرارها وأنوارها تكثر بتكررها، ولذلك فإنّ الصلاة جعلت لمصلحة صاحبها وهي تعود عليه بخير كثير وأجر وفير في الظاهر والباطن والعاجل والآجل مما لا يحيط بعلمه إلّا الله – سبحانه وتعالى –. ونحن في حاجة إلى التدليل على ما تقدم وذلك من خلال دراسة مخبرية تجرى على يدي مختصين في العلم التجريبي تبين هذه الآثار بالدليل المادي الذي يظهر من خلال حركة وعمل أعضاء الإنسان وحركة دورته الدموية ومن خلال عمل القلب بسطاً وانقباضاً بحيث تكون هذه الدراسة على اثنين من المسلمين: أحدهما مقيم للصلاة، والآخر مضيع لها، وستظهر عند ذلك نتائج يندهش لها الناس إيجاباً وسلباً.
ونحب أن نؤكد على حقيقة هامة وهي أن ما تقدم من الحديث عن فوائد الصلاة ما هو إلّا قطرة صغيرة في بحر واسع الأنحاء غزير الموج والماء لا يدرك قعره، ولا تحد شواطئه، فالصلاة فضلها عظيم وخيرها عميم وفوائدها لا تحصى ولا تعد. فالصلاة هي معقل المؤمن ومفزعه، وخندقه، ونهره الذي يتطهر به، ومفتاح رزقه، وهي سره، ونوره، وعقله، وقلبه، وروحه ومشاعره، وعواطفه وهي بالجملة حياته التي يحيا بها قلبه في الدنيا، ويحيا بها في الآخرة يوم تموت قلوب، فمن كان في صلاته حيّاً فهو في آخرته حي، ومن كان في صلاته ثابتاً متزناً فهو على الصراط ثابت متزن. فإقامة الصلاة تدل على إيمان صاحبها ودينه وعلى عدالته، ورجاحة عقله، وثبات قلبه، واتزان شخصيته، وكرم نفسه، فليهنأ مقيمو الصلاة بالخيرات في الحياة وبعد الممات.
قال ابن القيِّم – رحمه الله –: "فاعلم أن لا ريب أنّ الصلاة قرة عيون المحبين ولذة أرواح الموحدين وبستان العابدين، ولذة نفوس الخاشعين. ومحك الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمة الله المهداة إلى عباده المؤمنين، هداهم إليها وعرفهم بها وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين رحمة بهم، وإكراماً لينالوا بها شرف كرامته والفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم بل منة منه وتفضلاً عليهم، وتعبد بها قلوبهم وجوارحهم جميعاً وجعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعمه بحبه وابتهاجه بالقيام بين يديه وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده وتكميله حقوق عبوديته ظاهراً وباطناً حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه".►
*أستاذ التفسير بجامعة أم القرى
المصدر: كتاب تأملات في فضل الصلاة ومكانتها في القرآن والسنّة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق