توالت الأخبار عن عظيم عفو الله ورحمته في هذا الشهر المبارك من أوّل ليلة فيه إلى آخر ليلة دون انقطاع لفضله ورحمته كما في الحديث عن رسول الله (ص) بقوله: "إنّ أبواب السماء تُفتَحُ في أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، ولا تُغلَقُ إلى آخر ليلةٍ منه". وعن الإمام الصادق (ع) قال: "إذا كان أوّلُ ليلةٍ من شهر رمضان غَفَرَ اللهُ لِمَنْ يشاءُ من الخلقِ، فإذا كانت اللَّيلَةُ التي تليها ضاعف كُلّ ما أعتَقَ إلى آخر ليلةٍ في شهر رمضان يُضاعف مثل ما أعتَقَ في كُلّ ليلةٍ". وفي ذلك مدعاة للإكثار من الصالحات والعبادات سيّما إحياء الليالي في هذا الشهر الفضيل لكي يتمكن المؤمن من أن ينير قلبه وإحياء روحه وأن يلامس الخشوع خلال مناجاته ودعائه وابتهاله في هذه الساعات المباركة. وفي الحديث عن رسول الله (ص) قال: "لو يَعلَمُ العَبدُ ما في رمضان لَوَدَّ أن يكونَ رمضانُ السَّنَةَ". بمعنى أن يكون رمضان السنة كلّها لا شهر واحد منها فقط لما فيه من الخير العظيم والأجر الجزيل وما يعيشه المؤمن من نفحات إيمانية في هذا الشهر. ولهذا يعتبر هذا الشهر عيداً لأولياء الله يستبشرون بمقدمه ويحزنون لفراقه حتى قبل انتهائه كما في تعبير الإمام زين العابدين عند وداع شهر رمضان بقوله: "السّلام عليك يا شهرَ الله الأكبرَ ويا عيدَ أوليائِهِ. السّلام عليكَ يا أكرَمَ مَصحُوبٍ من الأوقاتِ، ويا خَيْرَ شَهرٍ في الأيّام والسّاعاتِ. السّلام عليك مِن شَهرٍ قَرُبَتْ فيه الآمال، ونُشِرَت فيه الأعمال. السّلام عليك مِن قَرينٍ (الصاحب الذي يعظم قدره حين وجوده ويحزن القلوب فراقه) جَلَّ قَدرُهُ موجوداً، وأفجَعَ فَقْدُهُ مفقوداً، ومَرجُوٍّ آلَمَ فِراقُهُ. السّلام عليكَ مِن أليفٍ (أنيس، الف الشيء أنس به وأحبه) آنَسَ مقبِلاً فَسَرَّ، وأوْحِشَ مُنقَضياً فَمَضَّ (مضّ: ألم وأوجع، ذلك أنّ قلوب المؤمنين تحزن وتتألم على فراق هذا الشهر المبارك). السّلام عليك من مُجاوِرٍ رَقَّت فيه القلوب، وقلَّت فيه الذُنوب. السّلام عليك مِن ناصِرٍ أعانَ على الشيطانِ، وصاحبٍ سهَّلَ سُبُلَ الإحسانِ. السّلام عليكَ ما أكثَرَ عُتقاءَ الله فيكَ، وما أسعَدَ مَن رَعى حُرمَتَكَ بك. السّلام عليك ما كان أمحاكَ للذنوب، وأستَرَكَ لأنواع العُيوبِ. السّلام عليك ما كان أطوَلَك على المُجرمين، وأهيَبَكَ في صُدور المؤمنين. السّلام عليك مِن شهرٍ لا تُنافِسُهُ الأيّامُ. السّلام عليك مِن شهرٍ هو من كُلِّ أمرٍ سلامٌ. السّلام عليك غيرَ كَرِيهِ المُصاحَبَةِ، ولا ذميمِ المُلابَسَةِ (الأشكال، الشبهة). السّلام عليكَ كما وَفَدْتَ علينا بالبركات، وغَسَلْتَ عنّا دَنَسَ الخطيئاتِ. السّلام عليكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً (سئماً وضجراً)، ولا مَترُوكٍ صيامُهُ سَأمَاً. السّلام عليكَ من مَطلُوبٍ قبلَ وقتِهِ، ومَحزُونٍ عليهِ قبلَ فَوْتِهِ. السّلام عليك كَم مِن سُوءٍ صُرِفَ بِكَ عنّا، وكَم من خيرٍ أُفيضَ بكَ علينا. السّلام عليكَ وعلى لَيْلَةِ القدرِ التي هي خَيرٌ من ألفِ شَهْرٍ. السّلام عليكَ ما كان أحرَصَنا بالأمس عليكَ، وأشَدَّ شَوْقَنا غَداً إليكَ". فهذه المشاعر الجيّاشة تجاه وجود شهر رمضان المبارك والحزن على فراقه وانتهاء وقته ينبغي أن يعيشها الإنسان في وجوده كلّ يوم بل كلّ ساعة ولحظة من هذا الشهر الفضيل ويشكر الله على هذا اللطف والنعمة العظيمة التي غمر بها عباده وتفضّل بها عليهم، فهو شهر الغفران للذنوب والستر على العيوب، شهر الخير والبركات وغسل الدنس من السيئات، فكم من سوء صرفه الله في هذا الشهر، وكم من خير أفاض به الله في هذا الشهر الذي رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب وأعان على الشيطان، وسهّل سبل الإحسان، فما أسعد من كان من أهل هذا الشهر ومن رعى حرمته وكرامته ومن فاز فيه بعتق رقبته من النار. والحديث عن النار وما يلاقيه الإنسان من عذاب وهوان حديث يطول البحث فيه ونوجزه بدعاء الإمام زين العابدين (ع) الذي يشير إلى أنواع العذاب في جهنّم الذي يقول فيه: "اللّهمّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ نارٍ، تَغَلَّظْتَ بها على مَن عصاكَ، وتَوَعَّدْتَ بها مَن صَدَفَ عن رِضاكَ، ومِن نارٍ نُورُها ظُلْمَةٌ، وهَيِّنُها ألِيمٌ، وبعيدُها قَرِيبٌ، ومِن نارٍ يأكُلُ بعضها بَعضٌ، ويَصُولُ بعضها على بعضٍ، ومِن نارٍ تَذَرُ العِظام رَمِيماً، وتَسقي أهلها حميماً، ومِن نارٍ لا تُبقِي على من تضرَّعَ إليها، ولا تَرحَمُ من استعطَفَها، ولا تَقْدِرُ على التخفيفِ عمَّن خَشَعَ لها واستسلَمَ إليها، تلقى سُكّانها بأحَرِّ ما لديها، من أليمِ النَّكالِ وشديد الوَبَالِ، وأعُوذُ بك من عقارِبها الفاغِرَةِ أفواهَها، وحيّاتِها الصَّالِقَةِ بأنيابِها، وشرابها الذي يُقطِّعُ أمعاء وأفئِدَةَ سكّانِها، وينزِعُ قلوبَهُم، وأستهدِيكَ لما باعَدَ منها وأخَّر عنها.
اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآله، وأجرني منها بفضلِ رحمَتِكَ، وأقِلْني عثراتي بِحُسنِ إقالَتِك، ولا تَخذُلني يا خيرَ المُجيرينَ، إنَّك تَقي الكريهة، وتُعطي الحَسَنَة، وتَفعَلُ ما تُريدُ، وأنتَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ. وفي هذا الوصف الدقيق لجهنّم وما يلاقيه الإنسان فيها عبرة للداعين في رمضان وأن يدعوا من أعماق قلوبهم عن وعي وإدراك ما يدعو به زين العابدين في دعائه "اللّهمّ صَلِّ على محمّدٍ وآلِهِ، وإذا كان لكَ في كُلِّ ليلةٍ من ليالي شهرِنا هذا، رِقابٌ يُعتِقُها عَفْوُكَ، أو يَهَبُها صَفْحُكَ فاجعَلْ رقابَنا من تِلْكَ الرِّقابِ، واجعَلْنا لشهرنا من خيرِ أهلٍ وأصحابٍ".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق