• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تحديد بوصلة الدُّعاء

عمار كاظم

تحديد بوصلة الدُّعاء

الدُّعاء حاجة فطرية عند الإنسان، فرداً وجماعة، هو جزءٌ من الحياة، ومن دورتها، فنحن ندعو الله عزّوجلّ في الليل أو النهار، وفي أيِّ ساعةٍ نريد، ولا نحتاج إلى مقدِّماتٍ أو تمهيدٍ. يكفي أن ترفع يديك وتنصب وجهك ثمّ تفتح الخطَّ مع المولى تعالى، هو هذا الحبل الممدود بين الله وعباده، والذي لا ينقطع أبداً. والدُّعاء دائماً له هدف وغاية، ولا فرق بين حاجةٍ صغيرةٍ تطلبها، وترجو أن يحقِّقها الله لك، أو حاجة كبيرة. الدُّعاء عبادة خالصة، ولو لم يكن فيها مصلحة للإنسان، لما فتح الله له هذا الباب من أبواب رحمته، لذلك دعانا إلى أن نسأله ونلجأ إليه سبحانه في الشدّة والرَّخاء، في الخوف والأمن، وفي العسر واليسر، ففي حديث قدسي، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «عبدي تعرَّف إليَّ في الرَّخاء أعرفك في الشدَّة». الدُّعاء عبادة، علاقة، مُناجاة، جوهر الدُّعاء أنّه عبادة كباقي العبادات، بل هو مخّ العبادة، كما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدُّعاء مخّ العبادة»، لكن من دون طقوسٍ ولا مواقيت.

جاء في الذكر الحكيم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). إنّها دعوة الله إلى عبده أن يستجيب له، فيدعوه إلى أنّ في ذلك خلاصاً له من كلّ سوء أو شدّة، وتحرّراً من كلّ عبودية لغير الله، عندما يشعر بأنّ الله هو وليّ حاجته، فمنه الفرج لكلّ شدّة، وبه الخلاص من كلّ سوء، وهو ـ لا غيره ـ مالك الدنيا والآخرة، ووليّ الحياة والموت، وبيده مقاليد الأُمور، وذلك هو سبيله للشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار، حين يشعر بأنّ حاجاته الصعبة هي في دائرة رحمة القادر على قضائها، والعالم بما يصلحه أو يفسده منها... وهي في الوقت نفسه دعوة إلى الإيمان به، لأنّه الحقيقة الواضحة التي لا يحتاج الإنسان في وعيها وفي الإيمان بها، إلى مزيدٍ من الفكر والتأمّل والمعاناة؛ بل يلتقي بها في كلّ شيء يعيش معه، وفي كلّ ظاهرة من ظواهر الوجود، وفي الحالين معاً؛ في الدُّعاء عندما ينطلق، وفي الإيمان عندما يتحرّك الرشد ـ كلّ الرشد ـ في واقع الحياة وفي حركتها الصاعدة أبداً إلى الله.

الدُّعاء ـ بعد ذلك كلّه ـ عبادة تهزّ أعماق الإنسان بالشعور بوجود الله وحضوره في كلّ ملتقى للإنسان، في ما يهمّه من أُمور الحياة، وفي ما يثيره من شؤون الآخرة. وهي عبادة لا تُفرَض عليه كلماتها وأجواؤها من خارج ذاته، من خلال تعليمات مفروضة، بل هي مشاعره وأفكاره وحاجاته وآلامه وآماله وكلماته المنطلقة من ذاته، في أسلوبٍ عفوي محبّب، في جوٍّ حميمٍ يفقد معه الشعور بالفواصل التي تفصله عن الله، بما تمثّله علاقة العبد بالسيِّد، أو علاقة المخلوق بخالقه؛ بل هو الجوّ الذي يحسّ فيه بالانفتاح والامتداد في أجواء المطلق. وتلك هي السعادة، كلّ السعادة، والروحية الفيّاضة بالنُّور والعطر والحياة. الدُّعاء عبادة الإنسان التي تتحرّك معها حياته كلّها بين يدي الله، في شعور بالمحبّة الذاتية الخالصة التي لا يعرف روعتها إلّا المخلصون من عباد الله.

والملاحظ أنّ معظم الأدعية في القرآن الكريم جاءت بصيغة الجمع، وهي بمثابة دعوة صريحة لجعل هذا النوع من الدُّعاء سلوكاً عاماً بين المسلمين، والنتيجة واضحة وبيِّنة ومعروفة: الدُّعاء يتحوّل إلى وسيلةٍ لشدِّ الروابط داخل المجتمع الإسلامي، باعتباره مجتمع تكافل وتعاون، وتحابب. حين تزاوج في دعائك بين هموم الدنيا من حولك وهموم مجتمعك وهموم آخرتك، فهذا يعني أنّ بوصلتك لم تنحرف، فهدفك وجه الله، ولا وجه غيره، فإن دعوت، فمن موقع عبوديّتك وفقرك وحاجتك إلى رحمة الله ورأفته وحنانه. نعم، في ساحة الدُّعاء، نمارس عبوديّتنا بحرّية كاملة، وباختيار واعٍ، تدفع بروحك وصوتك في معارج ملكوت الله، فتصبح جزءاً من منظومة كونيّة تُسبّح الخالق وتمجّده.

ارسال التعليق

Top