د. لطفي الشربيني
◄إنّ ذلك النوع من العلاج النفسي الذي يفوق في فعاليته كل الأدوية المهدئة المعروفة حتى الآن... وهو العلاج الذي يخلو استخدامه من مخاطر الآثار الجانبية الضارة... وهو العلاج الذي يمكن أن يمارسه أي منا في أي مكان وفي كل وقت... وهو الحل لما بداخلنا من معاناة حيث يزيح ما يسببه التوتر من عبء يشبه حمل شيء ثقيل.. وهو العلاج الذي لا يتضمن التخلص من التوتر فحسب بل يتبعه تغيير واسع في الشخصية حيث يصبح المرء أكثر نضجاً وكفاءة في مواجهة المشكلات بأسلوب معتدل... إنّه ليس فقط مجرد علاج بل فن، ومهارة، ومثابرة، ودعوة للصبر والتفاؤل، وضبط النفس، وجرعة من الثقة والطاقة...
ذلك هو الاسترخاء.. أرخص أنواع العلاج النفسي!
فكرة الاسترخاء:
قبل أن نتحدث عن الاسترخاء كأحد أساليب العلاج النفسي ذات الفعالية في التخلص من القلق والتوتر أتوجه إليك – عزيزي القارئ – بهذا التساؤل: هل الراحة ضرورية؟ وما أهميتها؟
هناك من يدّعون أنّ الإنسان يستطيع أن يعيش في عمل متواصل، ومن يقول بأنّ القلب يعمل منذ الولادة وحتى الوفاة دون توقف أو راحة، وتبدو هذه دعوة إلى العمل والنشاط، لكن حتى في حالة القلب فإنّ الحقيقة أنّه لا يعمل بصورة متواصلة بل ثبت أنّه يستريح! إنّه يستريح عقب كل نبضة، فإذا كان يدق 70 مرة في الدقيقة فإنّه يعمل 15 ساعة في اليوم ويستريح 9 ساعات! وحتى الآلات تحتاج إلى بعض الوقت للراحة والصيانة لتواصل العمل من جديد.
والإنسان يفترض أنّه يستريح ليلاً ليواصل عمله بالنهار، ويلاحظ البعض أنهم حين ينالون قسطاً إضافياً من الراحة بالنهار فيكون بوسعهم العمل والسهر لفترة أطول بالليل، وقد ثبت أنّ العمال الذين يعملون في حمل الأوزان الثقيلة يستطيعون مواصلة العمل حين يحل التعب بهم إذا نالوا فترة قصيرة من الراحة، وفي جنود الجيش الذي كانوا يضطرون للسير لمسافات طويلة أن فترة من الراحة لمدة 10 دقائق كل ساعة تدفع شعورهم بالتعب.
والاسترخاء فكرته قديمة حيث استخدم في الماضي بأساليب مختلفة، لكنه تطور حديثاً على يد علماء النفس الذين وضعوا نظرية العلاج الذي يقوم على استرخاء العضلات بعمق وبطريقة تبادلية، فالاسترخاء ليس جهداً يبدل بل هو امتناع عن بذل المجهود، وهو يختلف عن النوم أو الرقاد، كما أنّه لا يتعارض مع العمل والنشاط فاكتساب القدرة على الاسترخاء يطيح للمرء التحكم في مناطق الجسم والتخلص من التوتر العضلي المصاحب للانفعال، ففي بعض الحالات مثل قيادة السيارة يلزم أن تكون بعض العضلات في حالة انتباه لكن لا داعي لشد بقية الجسم بل يجب أن نظل في حالة استرخاء حتى يكون الأداء أفضل، ومثال آخر فأنت حين تجلس لمشاهدة التليفزيون فلا داعي بالمرة أن تبقى أمامه في وضع غير مريح وعضلات الوجه والرقبة والظهر كلها في حالة انقباض، ولماذا لا تكون في حالة استرخاء تام وأنت تتابع مشاهدتك وتستمتع بها؟
إنّ على كل منا أن يراجع وضعه كل مدة، ويقوم "بالتفتيش" للتأكد من أنّ عضلات جسمه التي لا تعمل في حالة استرخاء وليست في حالة شد وتوتر لا مبرر لها، افعل ذلك الآن – عزيزي القارئ – وتأكد وأنت تقرأ في هذا الموضوع الآن أنّ أجزاء جسمك في حالة استرخاء ولا يوجد توتر في أي عضلات في أي مكان من الجسم لأن ذلك لا علاقة له بما تقوم به الآن وهو القراءة، كما يجب أن تقوم بذلك أثناء الجلوس والعمل وقيادة السيارة.. تأكد أنّ العضلات التي لا تعمل في حالة استرخاء.
العلاج بالاسترخاء .. عملياً:
لا يعتبر الاسترخاء وسيلة علاج للمرضى فحسب، لكننا نوصي الأصحاء أيضاً بممارسته كأسلوب مفيد في تحقيق القدرة على ضبط النفس والثقة، ولا شكّ أنّ كل منا يصادفه في الحياة بعض مواقف الإثارة مثل اختبار أو مقابلة هامة أو الحديث في جمع من الناس، وأهمية الاسترخاء أنّه يخفف الانفعال النفسي والتوتر البدني في تلك المواقف، وحين يكتسب الواحد منا عادة الاسترخاء يكون قد تعلم مهارة جديدة مثل أي شيء نتعلمه كقيادة السيارات أو لعب الشطرنج، ويتم ذلك في بعض الحالات بواسطة جلسات مع معالج، أو بطريقة العلاج الذاتي الذي يطبقه الفرد بنفسه، كما يمكن تعلمه عن طريق شرائط تسجيل أخذت في الانتشار في الولايات المتحدة بعد أن أضحى هذا النوع من العلاج محل اهتمام كبير.
وعند تعليم الاسترخاء بواسطة المعالج يتم ذلك في صورة جلسات عددها 6 في المتوسط ومدة كل منها حوالي 20 دقيقة وفي البداية يقوم المعالج بشرح أسلوب الاسترخاء وأهميته في تخفيف القلق والتوتر وبعد ذلك يطلب إلى الشخص ممارسة تدريب الاسترخاء بنفسه دون التقيد بمدة زمنية أو توقيت محدد تبعاً لظروفه ومن المهم جدّاً أن لا يأخذ الشخص تدريب الاسترخاء على أنّه واجب ثقيل يتحتم القيام بهبل يجب أن ينظر إليه على انّه شيء ممتع في ممارسته لأنّه يمنحنا الراحة والنشاط.
التهيئة للاسترخاء:
قبل التدريب على الاسترخاء يجب اختيار الوقت المناسب وتهيئة المكان والظروف حتى لا تحدث أي تدخلات تعوق عملية الاسترخاء.
فالتوقيت المناسب لممارسة الاسترخاء هو الوقت الذي يختاره الشخص بحيث لا يكون مشغولاً بأي شيء آخر في هذه الأثناء أو في انتظار أي شيء خلال ذلك فالسيدة التي تضع الطعام فوق النار لا يمكن أن تذهب لممارسة الاسترخاء وذهنها مشغول باحتمال احتراق الطعام والشخص الذي ينتظر تليفون هام أو زائر متوقع وصوله لا يمكن أن يكون هيأ لممارسة الاسترخاء دون مقاطعة.
والمكان المناسب لممارسة الاسترخاء يجب أن يكون هادئاً بعيداً عن الضوضاء والإضاءة به خافتة مريحة فلا هي الظلام التام ولا هي الضوء الشديد ويفضل الاستلقاء على مقعد مريح في وضع الجلوس أو الرقاد على سرير لضمان راحة الجسم كله وإطرافه ومن الأفضل التخلص من كل العوائق قبل بداية الاسترخاء مثل الضوضاء التي يمكن الهروب منها أو عدم المبالاة بها وكذلك الأطعمة التي تسبب عسر الهضم وعدم الارتياح وكذلك الابتعاد عن أماكن العمل والمسئوليات لتجنب المقاطعة ويبدأ بعد ذلك التدريب تدريجياً لكن إذا حدثت أي إعاقة يمكن البدء من جديد كما يمكن إغماض العينين لمنع التدخلات البصرية.
والنصيحة الذهبية هي التركيز في عملية الاسترخاء فهذا هو الأساس لتعيمق الإحساس به والتنفس بعمق مع إغلاق الباب أمام أي تفكير أو إثارة.
كيفية الاسترخاء:
أنّ مجرد الاستلقاء له أثر مهدئ وعلى الشخص الذي يبدأ التدريب على الاسترخاء أن يتخلص من مخاوفه من فقد السيطرة على نفسه أمام المعالج بالاسترخاء العميق وهنا بث الطمأنينة في نفسه حتى تزول هذه المخاوف تدريجياً وعليه أن يتأكد أنّ الاسترخاء العضلي يتبعه دائماً شعور بالراحة والهدوء النفسي.
وفي البداية يجب إدراك شعور التوتر عن طريق الانقباض الإرادي لليد والذراع وملاحظة الإحساس غير المرغوب المصاحب لهذا الانقباض وهو نفسه شعور التوتر العضلي الذي يسبب الكثير من الأعراض التي تضايق المريض ثمّ يتم بعد ذلك ممارسة التدريب عن طريق الانقباض الإرادي لأجزاء الجسم بأي ترتيب حيث يمكن البدء بالذراعين ثمّ الساقين، والرقبة والظهر وبقية المناطق وبعد الانقباض لفترة وجيزة يتم إرخاء العضلات وملاحظة شعور انبساط العضلات وهو محل التوتر والاستمتاع بالمقارنة بين هاتين الحالتين..
إنّ ذلك هو الفارق بين حالة التوتر البغيضة غير المرغوبة، وحالة الاسترخاء الممتعة.. ويمكن إدراك هذا الفارق مع تتابع حركات الانقباض والانبساط في كل مجموعة من عضلات الجسم والشعور المصاحب لذلك.
ويتم مراقبة الاسترخاء في كل أجزاء الجسم أثناء التدريب مع التخلص من التوتر في أي جزء، والتنفس بعمق وبسهولة، والتركيز العميق في الإحساس المصاحب للاسترخاء والاستمتاع به والاستغراق فيه لفترة كافية في نهاية التدريب دون مبالاة مما يصاحب ذلك أحياناً من أحاسيس غريبة مثل التنميل وثقل الأطراف أو الرغبة في النعاس وهذه أمور معتادة تدل على حدوث الاسترخاء.
فوائد متعددة للاسترخاء:
كما يصاحب التوتر عادة القلق ويرتبط بالأمراض النفسية والإضطرابات العقلية، فإنّ الاسترخاء على العكس من ذلك – يكون أكثر شيوعاً في الأسوياء من الناس والناجحين اجتماعياً الذين يمارسون أنشطة الحياة بكفاءة، ويؤدي نجاح الشخص في تعلم الاسترخاء العضلي كبديل للتوتر إلى مزيد من الكفاءة والقدرة على مواجهة ضغوط الحياة الخارجية، وإلى الراحة النفسية الداخلية أيضاً.
فالاسترخاء يفيد عند مواجهة المواقف المثيرة للقلق كأسلوب للضبط الذاتي، ويمكن تجربة ذلك بممارسة الاسترخاء لدقائق قليلة قبل مواجهة أي موقف يثير الانفعال، ويمكن بمساعدة أسلوب الاسترخاء علاج كثير من الحالات النفسية المزعجة، على سبيل المثال في حالات "الفوبيا" أو الخوف المرضي التي يتم علاجها بالتطمين التدريجي الذي يساعد على التخلص من المخاوف، كذلك يفيد الاسترخاء كثيراً في علاج الإضطرابات الجنسية في الرجل والمرأة مثل سرعة القذف، والتشنج المهبلي، وكذلك في حالات الصداع النصفي والأرق، ومن فوائد الاسترخاء أيضاً أنّه يساعد في تغيير نمط وصفات الشخصية خصوصاً في أولئك الذين يعانون من التوتر والشد الدائم، مثل نمط (أ) من الشخصية الذين يكونون عرضة للإصابة بأمراض القلب، حيث يمكن لهم الاستفادة من الاسترخاء في تهدئة انفعالاتهم الدائمة وضبط التوتر المزمن من الإصابة على مدى طويل السمة الغالبة في شخصيتهم، فهو بالتالي أسلوب للوقاية من الإصابة المحتملة لهؤلاء الأشخاص بأمراض القلب.
أخيراً – عزيزي القارئ – ألا ترى معي أنّ هذا الأسلوب (الاسترخاء) يمكن أن يكون عظيم الفائدة لنا جميعاً؟ كما أنّه يسير في تطبيقه، ولا يحتاج إلى الجهد أو المال، ألا ترى معي أنّه بالفعل شيء يستحق أن نجربه جميعاً؟►
المصدر: كتاب عصر القلق.. الأسباب والعلاج
ارسال التعليق