يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ...) (طه/ 96). والتبصر: التأمل والتعرُّف، والتبصير: التعريف والإيضاح. والمُبْصرة: المضيئة. ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً...) (النمل/ 13). قال الأخفش: معناه أنها تبصرهم، أي تجعلهم "بُصَرَاء".
فالتبصير – إذن – هو التعليم والتعريف والإيضاح والتنوير، ومن أهم واجبات الآباء والمربين التربوية تبصير الأبناء والبنات بآداب التعلم ومهارات تحصيل العلم، وفيما يلي تبيان ذلك.
- أوّلاً: بصِّر ولدك بتطهير القلب:
أن آداب المتعلم أن يُطِّهر – أي المتعلم – قلبه من كل غش ودنس، وغلٍّ وحسد، وسوء عقيدة وخلق؛ ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه، والإطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإنّ العلم – كما قال بعضهم – صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن.. وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات، وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها، وإذا طُيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طُيبت للزرع نما زرعها وزكا.
وفي الحديث: "إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
وقد قيل: "حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عزّوجلّ".
هذه نصيحة لكل أب يشكو من ضعف ولده في التحصيل الدراسي، أو عزوفه عن العلم، وعليه أن يبدأ بإعمار قلب ولده، وتزويده بالتقوى قال عزّوجلّ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282).
وهي نصيحة قيمة أيضاً لمن أراد لإبنه الطريق السوي، الذي يحقق له الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
- ثانياً: بصِّره بإخلاص النية:
في بداية كل فصل دراسي في أوّل محاضرة ألتقي بطلابي أو طالباتي أسألهم: لماذا أتيتم إلى الكلية؟ فيجيبون إجابات شتى، ونادراً ما يذكر أحدهم أنّه جاء يطلب العلم قاصداً به وجه الله تعالى، وهذا يؤكد خواء الفكر والقلب، وتقصير الآباء والمربين في هذا المجال، فحريّ بالآباء والمربين أن يبصِّروا أولادهم وتلاميذهم بإحسان النية في طلب العلم، بأنّ يقصدوا به وجه الله تعالى، وإحياء شرعه، وتنوير قلوبهم، وتحلية بواطنهم، والقرب من الله يوم القيامة، والفوز بما أعده الله لأهل العلم من أجر وثواب ونعيم.
- موقف تربوي أسري:
ذات يوم استيقظ الزوج على صوت زوجته وهي توقظ ابنهما – وكان آنذاك في الصف الثاني الإبتدائي – كي يذهب إلى مدرسته، فدار بين الأُم وإبنها الحوار التالي:
الأُم: انهض؛ لتذهب إلى المدرسة.
الإبن: هو كل يوم مدرسة؟ لماذا أنتم مصرُّون على المدرسة؟ وما الفائدة منها؟
الأُم: كيف تقول ذلك؟
الإبن: أنا أسألك أجيبيني وتحاوري معي.
الأُم: نريدك تذهب إلى المدرسة؛ لتحصل على شهادة علمية.
الإبن: ولماذا الشهادة العلمية؟
الأُم غاضبة: كيف تسأل مثل هذا السؤال؟
الابن: أنا أحاورك فحاوريني بهدوء ودون غضب وصراخ من فضلك.
الأُم: تحصل على الشهادة؛ لتجد فرصة عمل.
الابن: مع أني غير مقتنع بما تقولين، ولكن فلنتحاور إلى النهاية... ولماذا أحصل على فرصة عمل؟
الأُم: كي تتزوج وتكوِّن أسرة في بيتك.
الإبن: اسمحي لي أن أقول لك يا أُمّي: إني غير مقتنع بما تقولين، وسوف أحاورك بالأرقام والأدلة الواضحة، فأجيبني:
كم بالمائة من أقاربك وأقارب والدي حصلوا على الشهادات العلمية العالية ووجدوا فرص عمل؟ وكم بالمائة ممن وجدوا فرص عمل استطاعوا أن يتزوجوا ويكوِّنوا أسرة من رواتبهم؟ إذن فلا حاجة للمدرسة ولا للشهادة العلمية!!
ضجَّت الأُم بما قاله الإبن، ونادت الأب: أسرع لتتحاور مع ابنك، فلقد كدت أنفجر من حواره وكلامه.
الأب: أأنت مسلم يا بني أم غير مسلم؟
الإبن: هل هذا سؤال؟
الأب: نحن نتحاور، فأجبني في هدوء ودون إنكار وإنفعال.
الإبن: مبتسماً: أنا مسلم بالتأكيد.
الأب: مسلم بالقول أم بالقول والعمل؟
الإبن: مسلم قولاً وعملاً.
الأب: إذن ستعمل بما جاء به القرآن والسنة.
الإبن: بلاشك.
الأب: إذن فاستمع لقول الله عزّوجلّ: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...) (المجادلة/ 11)، ألم نستنتج من ذلك أهمية تحصيل العلم.
وتدبّر قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ...) (الزمر/ 9)، وما أكثر الآيات التي تبيِّن عظمة العلم وثواب تحصيله.. أما عن هدي رسولنا الكريم في تحصيل العلم، فما أكثر الأحاديث التي حثت على تحصيل العلم ورغَّبت فيه، بل رفعته إلى درجة الجهاد، وحسبي في هذا السياق أن أُذكرك – بُنيَّ – بقول النبي (ص): "مَن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع".
ثمّ أردف الأب قائلاً: يا بُني، لماذا تنظر إلى النصف الفارغ من الكوب ولا تنظر إلى النصف الممتلئ؟ لماذا نظرت إلى مَن حصلوا على الشهادات ولم يجدوا عملاً؟! ولماذا نظرت إلى مَن وجدوا عملاً، ولم يستطيعوا أن يتزوجوا من رواتبهم؟ لماذا لم تنظر إلى مَن وجدوا عملاً، وكان العمل سبباً في رفع مكانتهم إجتماعياً وإقتصادياً؟ لماذا لم تنظر إلى أبيك وتسأل نفسك: ما الفرق بيني وبين أبناء عمومتي ممن لم يحصلوا على شهادات عالية؟ وما السبب في كونك تتمتع بمستوى كريم من المعيشة والحياة، في حين يعاني أبناء الناس الذين لم يحصلوا على الشهادات العليا من تدني مستوى معيشتهم؟
هذا الموقف الأسري التربوي يؤكد أن أبناءنا بحاجة ملحة إلى أن نبصرهم بإخلاص النية في تحصيل العلم، وإبتغاء وجه الله به، والتعبد بتحصيله، فلذلك تأثير أقوى من مجرد الترغيب بشهادة، أو راتب، أو شراء بيت، وتكوين أسرة، وهذا هو الفارق بين المسلكين، المسلك الذي سلكته الأُم في ترغيب ابنها أثناء حوارها مع ابنها، في تحصيل العلم، ومسلك الأب الذي ضرب على أوتار الإخلاص والنية أوّلاً، ثمّ نبه الإبن بعد ذلك ورغّبه في ثمرات العلم الدنيوية.
- ثالثاً: بَصِّرْ باغتنام الشباب:
فمن واجبات الآباء والمربين أن يبصِّروا الأبناء والبنات والمتعلمين بضرورة المبادرة والمسارعة إلى تحصيل العلم في أوقات الشباب.
يقول الشاعر عن إغتنام الشباب في تحصيل العلم:
بقدر الكدِّ تُعطَى ما تروم **** فمَن رامَ المنى ليلاً يقوم
وأيام الحداثة فاغتنمها **** ألا إنّ الحداثة لا تدوم
- رابعاً: بصِّره بالصحبة الطيبة:
فمن الأسباب القوية لتحصيل العلم أن يصاحب المتعلم الجادِّين في طلب العلم، وأهل الإيمان، فذلك يحفزه على تحصيل العلم، ويشحذ عزيمته، ويرفع همته.
يقول الإمام علي (ع):
فلا تصحب أخا الجهل **** وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى **** حليماً حين واخاه
يقاس المرءُ بالمرءِ **** إذا ما هو ماشاه
على الأب – إذن – أن يبصِّر أولاده بمعايير الصاحب والصديق، وأن يساعدهم على إختيارهم، وتجنب رفاق السوء، وخصوصاً مَن عُرفوا بالإنحراف، وكثرة اللهو واللعب، لأنّ الطباع سرّاقة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعِرْض، فإن كان الإبن قد صاحب أحداً من هؤلاء فليساعده الأب ولتساعد الأُم ابنتها – وكذلك أبوها – على قطع العشرة بتلطف من أول الأمر قبل تمكُّنها، فإنّ الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتُها.
فانظر إلى الصداقة والصحبة كيف كانت، وكيف تكون، وليتعلم أولادنا ذلك، ليزيدهم صبراً ومثابرة على العلم، وتقوى روابط الصداقة والأخوة بينهم، وليكونوا زهَّاداً في الدنيا، قانعين في عصر طَغت فيه المادة وزخرفها، حتى أغرقتهم في التنعم وحب الشهوات، ولينتقوا أصدقاءهم وأصحابهم، ولله درُّ الشاعر إذ يقول:
إن أخاك الصدق مَن كان معك **** ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريبُ الزمان صدَّعك **** شتت شمل نفسه ليجمعك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق