فإنّ حكمة الله تعالى قررت: أن لا يوجّه رسولاً إلى النّاس، إلّا بعد أن يجنّده بمعجزة، تكون بَينَةً على شعبه، لتكون رسالته معززة بالمنطق، الذي يستجيب له المفكرون، وبالمعجزة التي تبهر السواد، الذي لا يدين بالمنطق، ولا يفقه البيّنات.
وشاء الله أن تكون معجزة كلّ رسولٍ منتزعة من عبقرية شعبه، لتكون أدل على رسالته. فلما بعث موسى بن عمران، في شعب نبغ في السحر، جعل الله معجزاته من نوع السحر، ليعرف بنو إسرائيل مدى إعجازها المثير، فكان يلقي عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، وينتزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وسلط على آل فرعون الجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وظلله الغمام، ونزل عليه المن والسلوى، وانفلق له البحر، وضرب بعصاه الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا..
وبعث المسيح بن مريم، في قوم برعوا في الطب، فجاءهم المسيح ليقول:
(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (آل عمران/ 49).
وأمّا النبيّ الأكرم، فحيث بعث رسولاً للعالمين إلى انتهاء الحياة، وجب أن تكون له معجزة خالدة، تبقى موروثة في الأجيال، ليستطيع كلّ فردٍ أن يتأكد من إعجازها، وصدق النبيّ الذي جاء بها، ولذلك نجد القرآن الكريم، مجموعة من المعجزات المتضافرة، التي يتجاوب كلّ معجزة منها مع عبقرية جيل من الأجيال، فحيث كانت عبقرية الجاهليين متجسدة في البلاغة، وجدوا القرآن معجزة في البلاغة لا تنال، وعندما طغت الفلسفة على ظاهرة الحياة تكشف القرآن عن وجه جديد، فإذا هو معجزة في الفلسفة لا تطاول، وبعدما توسع فقه القانون، أخذ الفقهاء من القرآن تصميم الفقه، في ذروة نبوغه. حيث انّ الشريعة الإسلامية، تحمل العناصر الكافية، التي تجعلها صالحة للتطور مع حاجات الزمن. واليوم الذي انتشر فيه العلم الحديث، فاكتشف من الذرة حتى السديم، نرى في القرآن بينّات من العلم، فقد ثبت إنّ القرآن جمع ركائز العلوم، وأشار إلى كلّ مستحدث طريف، ووجّه الإنسان إلى الانطلاق في رحاب الكون، للتأمل والاستنباط كقول الله تعالى:
(قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت/ 20).
(انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) (الأنعام/ 99).
(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) (البقرة/ 259).
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)؟ (الأنبياء/ 30).
فقررت الآية الكريمة نظرية "لابلاس" التي ظلّت مغلقة حتى السنين الأخيرة. وقوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) (الزّمر/ 6).
فأشار إلى علم الأجنة، وإنّ الجنين يتكوّن محاطاً بثلاثة أغشية صماء، لا ينفذ منها الماء ولا الضوء ولا الحرارة، التي تعرف باسم "المبنارية" و"الأميونية" و"الخوربونية".
فالقرآن، ليس كتاب تشريع ومعاملات، كما يقول البعض، ولا كتاب تأمل وإيمان، ولا كتاب بلاغة وأدب، ولا كتاباً سياسياً، أو اجتماعياً، أو عسكرياً فحسب.
وإنّما هو إلى جانب ذلك كلّه كتاب جمع فأوعى، وله سبعون بطناً أو يزيد، غير انّه لا ينفتح للناس في كّل جيل إلا بمقدار ما تستنبطه عبقريتهم، وكلما تتابعت الأجيال وتطوّرت العبقريات تفتق القرآن عن صفحات في قمة الإعجاز، يذعن لها الفكر البشري المنطلق، أو ليس كلمة السماء، ودستور الإسلام الخالد، ومعجزة رسول الحياة؟ أو ليس هو الذي تحدى البشرية بكلّ ثقة وجرأة، هاتفاً في العالمين:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 23).
أو ليس هو الكتاب العالمي الأوّل، الذي أثبت نفسه وعبقريته، واشغل الإذاعات والمفكِّرين، دون سواه واعترف له الجميع بالتقوى والأعجاز؟ ومما يلفت الإعجاب في القرآن: انّه كتاب واثق من صدقه وقوته، حتى أبعد الحدود، فهو لا يحاول أن يتسلّل في الظلام أو يندس في أدمغة البسطاء، أو يتحامى عن مواجهة العمالقة الأفذاذ، وإنما يروم الإلتقاء بالمفكرين ويوجه آراءه ونداءاته إلى الرعيل الأوّل من رجال العالم، فيخاطب أبداً أولي الألباب ويقول:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد/ 4).
أو:
(لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام/ 98).
أو:
(لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد/ 3).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق