• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المقصد التربوي للصلاة في الجانب العقلي

د. صلاح سلطان

المقصد التربوي للصلاة في الجانب العقلي
◄هناك جوانب كثيرة تؤثر فيها الصلاة في الجانب العقلي وصياغته صياغة ربانية مرنة وقوية، صياغة فيها النضج العقلي، وقد كان العقلاء يحرصون على صياغة عقولهم صياغة خاصة.

من هذه الجوانب ما يلي:

أوّلاً: من أركان الصلاة قراءة الفاتحة، ومن سننها قراءة القرآن، وقد كان النبيّ (ص) يطيل في صلاة الفجر خاصة، ففي مساجد كثيرة في العالم الإسلامي، بل المراكز الإسلامية بأوربا وأمريكا وأستراليا والصين تفعل بإطالة الصلاة، وقيام الليل الأصل فيه أن تكون القراءة من القرآن طويلة حتى لقد صلّى النبيّ (ص) ركعتين قرأ في الأولى بالبقرة وآل عمران والنساء، وهذا كلّه يسهم في صياغة عقلية رصينة لكلّ مسلم على وجه الأرض، هذه العقلية التي لا تقبل الأوهام بل تعتقد الحقائق وتطرد الظنون لتورث مكانه اليقين، ولقد نعى الله على مَن يتبع الظن فقال سبحانه: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم/ 28)، وتتشكل عقلية المسلم على العقائد الصحيحة والأخلاق السامية، والتشريعات الكاملة، صياغة تتكون في عقل ووجدان كلّ مسلم على وجه الأرض منذ نزل القرآن وحمله الأصحاب إلى التابعين، وما زال يتردد على عقول وقلوب المؤمنين في كلّ زمان ومكان، هذا يجعل هناك قدراً كبيراً من التوافق العقلي لكلّ المسلمين، فلو قمت بتجربة عملية على مدى تقارب الأفكار بين أبناء بلد واحد، بل تخصص واحد وقدمت لهم مائة سؤال في جوانب شتى من المعتقدات والأخلاقيات والأفكار التشريعية في بلده لاختلفوا اختلافاً بيّناً، بينما لو قدمت هذه الأسئلة ذاتها إلى عدد من المسلمين من بلاد شتى وتخصصات مختلفة، فإنّ إجابتهم ستتقارب جدّاً؛ لأنّ القرآن الكريم هو مصدر التلقي الأوّل عند كلّ مسلم، هو الحجة البالغة، والحكمة الكاملة، ومنه تستمد المعتقدات وجلّ الأفكار، هو منطق الفكر، يعرف فيما يجب أن يصول العقل ويجول، وفيما يتوقف ويسلم بأمر الله تعالى ويوظف العقل في الجوانب المفيدة للإنسان كلها في معاشها ومعادها. ولا يطلق العقل دون ضوابط أو معايير فيقضي العمر كلّه فيما لا يصل إليه مخلوق من خلقه تعالى مثل التعريف على حقيقة الروح فيكفي المسلم أن يقرأ قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).

والصلاة إذن تحافظ على حد معقول من الاعتقادات العقلية والقلبية لدى كلّ مسلمي الأرض، وتوجه العقل وفق منهج راشد سديد لإصلاح دنياه وآخرته بدلاً من الخوض فيما لا يفيد أو ما لا يصل أهل الأرض فيه إلى شيء.

ثانياً: مما لا شك فيه أنّ صفاء النفس مفضٍ إلى نقاء العقل ونماء العلم، والصلاة تشرح الصدر، وتريح القلب، وهذا يفرغ العقل للتفكير العميق، والنبوغ العلمي، والاستيعاب والتحصيل وهو معنى قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة/ 282)، فتساهم الصلاة بروافدها الندية في إحداث التقوى وهي تفضي إلى العلم، ويوم أن صفت نفوس الأُمّة نبغ فيها العلماء في كلّ جوانب الحياة النافعة، في الطب، والفلك، والكيمياء، والبصريات، والرياضيات.

ثالثاً: لا يمكن إغفال دور الأحكام الشرعية في الصلاة في تقدير العقل والعلم والعلماء في أن يكون الإمام أكثر المسلمين علماً وحفظاً وفقهاً.

ومع كثرة المساجد في أرض الله تعالى يكثر معها ذوو الحفظ والعلم والفقه، وتسعى كلّ فئة أن تكرم العلماء بتقديمهم في الصلاة، والرجوع إليهم في الخصومات، ويلجأون إليهم في الملمات التماساً لحكم الله تعالى، وهذا يزيد العلماء شرفاً، وحرصاً على مزيد من التعلم كي يكونوا أهلاً لهذه المنزلة الرفيعة التي أنزلهم الناس إياها.

رابعاً: من المعلوم أنّ للصلاة أركاناً تبطل بفوات أحدها، وسنناً وهيئات يتضاعف الأجر بمراعاتها، وهذه تفيد العقل المسلم في صياغته صياغة منهجية تضع كلّ أمر في موضعه، فلا تكبر الصغائر وتتورم على حساب عظائم الأمور كما يحدث من صغار المتدينين، يقرأون في أحكام الإسلام كأنّها جميعاً إما واجبات أو فرائض أو محرمة، لا وسط بينهما في الندب والإباحة والكراهية. وهؤلاء لا يحسنون التعامل مع الناس بل ربما كانوا فتنة لهم، أما أحكام الصلاة فتوقف العقل المسلم على منهجية واضحة أنّ هناك فرائض وأركاناً تقدم على المستحبات والمندوبات إذا استحال الجمع بينهما، فمن كان برجله ألم يمنعه من الجلسة المستحبة للتشهد وحمل نفسه على هذه الجلسة مع تفويت الخشوع وهو روح الصلاة فإنّه لا شك مخطئ، أما مَن جعل روح الصلاة أولى من هيئات الصلاة فهذا يدل على نضج عقلي يؤثر لا شك على مجريات حياته واختيار قراراته.

وما أكثر حاجتنا اليوم أن ندرك فقه الأولويات سواء في حياتنا الخاصة أو العامة، الدعوية والحركية، السياسية والاقتصادية، وهذا لن يحدث إلّا بإعادة صياغة العقول لكلّ فرد في الأُمّة صياغة تحسن بذاتها إدراك أولويات حياتها.

خامساً: يتعلم المسلم من الصلاة أن يحدد دائماً الهدف والغاية من كلّ عمل يعمله ولا يقوم على الشيء عبثاً، ولا يتهور في قراراته فإذا أراد الصلاة لم تصح إلّا بنية صالحة فإذا كبر تكبيرة الإحرام كان التوجه واضحاً عندما يقرأ في دعاء الافتتاح: "وجهت وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين"، فإذا ركع ذكر من دعاء النبيّ (ص): "اللّهمّ لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري.."، وإذا سجد ذكر نفس المعنى: "سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشقّ فيه سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين".

سادساً: والمسلم الذي يداوم ويحافظ على صلاته تتشكل عقليته بطريقة قوية مرنة فتجده يتعلم من الرخص التي منحها الله للمسلم والمسلمة كيف يتعامل مع المواقف اليومية بسهولة ويسر بعيداً عن التعقيد والتشدد والغلو، ومن صور التيسير في ذلك ما يلي:

أ) مَن لا يعلم جهة القبلة ثمّ اجتهد وسعه، فصلّى لغير القبلة فالراجح أنّ صلاته صحيحة إذا بذل قصارى جهده واستفرغ وسعه.

ب) مَن لم يقدر على القيام في الفريضة يصلي قاعداً أو راقداً أو يومئ برأسه أو يحرك أجفان عينيه بالركوع والسجود، والمهم ألا يترك الصلاة.

ج) مَن لا يجد ما يستر عورته صلّى جالساً، وتصح صلاته.

د) أباح الله تعالى للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية ويجمع الظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء.►

 

المصدر: كتاب للعبادة أثر في الفرد روحياً وأخلاقياً وعقلياً وبدنياً

ارسال التعليق

Top