• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المبدأ القرآني في التعامل مع الآخر

عمار كاظم

المبدأ القرآني في التعامل مع الآخر

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13). تبيّن الآية أهم المبادئ الإلهية التي أرساها القرآن الكريم للتعامل مع الآخر. فمن خلال الآية المتقدّمة يؤكِّد القرآن الكريم قاعدتين أساسيتين في حقيقة المجتمعات البشرية: (الحقيقة الأولى: وحدة الجنس البشري، والحقيقة الثانية: التدخّل الإلهي في تنشئة المجتمعات).

وأمّا الحقيقة الأولى فبيّنها الله تعالى من خلال قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) (النِّساء/ 1). فهذه الآية تقرّر أنّ الناس كلّهم حقيقة واحدة وطبيعة متماثلة؛ فالرجل من نفس طبيعة المرأة، والمرأة من نفس طبيعة الرجل، ويناسب هذه الحقيقة قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) (الرُّوم/ 21)، وكذلك قوله تعالى: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) (النحل/ 72). وأمّا الحقيقة الثانية والتي تظهر من خلال قوله تعالى (وجَعَلْناكُم) والتي تبيّن الإرادة الإلهيّة في تكوين مجتمعات بشكلٍ متنوّع ومتمايز، وأنّ هناك جملة من المصالح والفوائد أرادها الله من وراء ذلك الجعل، وهذه الآية تقرّر أنّ تشعيب الناس إلى شعوب وقبائل كان من الجعل التكويني الإلهيّ.

دلّت الآيات القرآنية على تأصيل مبدأ السلم مع الآخر بحيث يكون السلام هو المناخ الذي يحيط بأي علاقة بالآخر مهما كان بعيداً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 208). ولكنّ الدعوة إلى السلم لا تنطلق من الجبن والخوف وإنّما من الروح الإيجابية وقوّة الرحمة في الإسلام: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمّد/ 35). والنظرة القرآنية لهذا التعامل إنّما تنطلق من الرحمة الإلهية في التعامل مع الآخر، قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة/ 109).

ومن هنا فإنّه من الضروري الرجوع إلى المبادئ العامّة التي أرساها القرآن الكريم للتعامل مع الآخرين والتي تختزن في جوهرها الرحمانية والرحيمية تجاه الآخر، ومن أهمّ هذه المبادئ والقواعد الإلهية هو الحوار. قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24)، والآخر هنا من الفئات الضالّة، ومع ذلك فقد أطلق الإسلام لغة الحوار معه، وأطلقها في مناخٍ من الراحة والهدوء غير المسبوق بقناعات وعقائد مسبّقة، أي حوار مبني على قاعدة أنّ المتحاورَيْن يمكن أن يكونا على هدّى، ويمكن أن يكونا على ضلال، وفي ذلك منتهى احترام إنسانية الآخر.

وكذلك فإنّ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة قاعدة مهمّة أيضاً، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/ 125)، فلغة الدعوة وبيان الحقائق الإلهية ينبغي أن تكون حكيمة في مخاطبتها للعقل والقلب، كما أنّه ينبغي في الداعي أن يكون واعياً ملمّاً بهذه المعارف الإلهيّة حتى لا يُسيء للشريعة وهو يحسب أنّه يحسن صنعاً، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف/ 108). ولذا نجد القرآن عبارة عن حوار وجدال بين الأنبياء وأقوامهم الذين خالفوهم ولم يتبعوا تعاليمهم وبقوا على ضلالهم وباطلهم. والجدال الأحسن هو لغة التخاطب والتعامل مع الآخر عند الاختلاف في وجهات النظر وتعدّد الآراء حيال مسألة ما، فالقرآن الكريم لم يرتضِ من المسلم في هذه الحالة أن يقدّم الحسن بل دعاه عند الاختلاف إلى ضرورة تقديم الأحسن؛ لأنّ القرآن يعتمد على قوّة الفكر، وبالتالي فإنّ القرآن اعتمد الجدال الحسن لغة أساسية للدعوة والتعامل مع كلّ الأطراف، قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

اعتماد مبدأ الحرية والاختيار إذ لا معنى لاحترام الآخر ما لم تحترم قناعاته وعقائده، فالاعتقاد لا يمكن أن يكون بالقوّة والإكراه أو العنف والإرهاب، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). ويوجب تعدّد أساليب وأنواع التعامل.. فالآخر فئات وأفراد مختلفة، فالآخرون ليسوا سواء في المواقف، وليسوا سواء في الأفكار، وليسوا سواء في الصفات، فكلٌّ له خصاله ومواقفه وأفكاره، قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 113-114). وهذا لا يعني أنّ الآخر إذا كان أبعد كان التعامل معه أقلّ رحمانية، بل على العكس فلعلّ البُّعد يوجب علينا أن نكون أكثر رحمةً ورأفةً بالآخرين ما لم يكن الآخر محارباً شاهراً سيفه فيتحوّل حينئذٍ التكليف معه إلى شكل آخر.

ارسال التعليق

Top