الصيام عبادة الجسد والنفس معاً، وإذا تخلف أحدهما عن الآخر بطل صيامه، فمن الناس من يصوم صوم الجسد بامتناعه عن الطعام والشراب والشهوة، ولكن يطلق العنان لنفسه لتخوض في شهواتها، فلا يكف عن الحرام قولاً أو فعلاً، ولهذا قال النبيّ (ص): "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث". إنّ المتأمل في الصيام كونه عبادة الجسد والنفس، يجد مفارقة عجيبة، وهي أنّ في صوم الجسد غذاء للنفس، فالامتناع عن الطعام والشراب يضيق على الشيطان مداخله إلى النفس؛ فتكف عن غيِّها وإلحاحها في طلب الشهوات، ولهذا كان الصوم العلاج النبوي للشباب الذي لا يستطيع الزواج، كما في الحديث عن النبيّ (ص) قال: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءَةَ فلْيتزوج، فإنّه أغَضُّ للبصر وأحصَنُ للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصومِ، فإنّه له وجاءٌ". وفي إشارة عامة لوقاية الصوم من عموم الشهوات، قال رسول الله (ص): "الصيام جنة وحصن حصين من النار". فإذا امتنع عن الجسد الطعام والشراب، أغلق على النفس باب الشهوات فطلبت في صيام الجسد الغذاء الذي يتناسب مع فطرتها التي فطرها الله عليها فهي روح، والروح أصلها نفخة من روح الله نفخها في أصل الإنسان وهو آدم (ع)، يقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (الحجر/ 28-31). فالجسد خلقه الله من طين وغذاؤه من الأرض بما يلائم طبيعته الطينية الأرضية، أما النفس أو الروح، فعلوية المصدر، وصلاحها في طيب غذائها، المتمثل في وحي السماء، وهذه كانت وصية الله لآدم (ع) ولذريته من بعده إلى قيام الساعة، قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 38)، وقال تعالى عن اتباع الأُمّة لما جاء به النبي (ص): (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/ 7). فعندما تتحرر النفس من أسر الجسد وشهواته تعود لفطرتها العلوية، فتبحث عن غذائها في آيات القرآن، أو في أحاديث وسيرة النبي (ص)، فترقى إلى حيث الملائكة؛ فتجذب الجسد ليرقى معها، فيأنس الجسد بنفسه السابحة في روحانيات ونفحات ربانية، فيستشعر لذة القرب من الله، فينسى آلامه، بل قد يستعذب العذاب طالما كان في سبيل الله تعالى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق