• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القراءة في خطر

علي القيّم

القراءة في خطر
"القراءة في خطر" عنوان دراسة دقيقة وعلميّة ورصينة نشرت في الولايات المتحدة الأمريكية، ووزعت في شتى أصقاع العالم، وقد امتد العمل في إعدادها وجمع بياناتها على فترة عشرين عاماً، وشملت مجموعات كبيرة ومتنوعة من فئات الأعمار جميعاً، ومن مختلف مستويات التحصيل العلمي.. وقد جمع معطيات هذه الدراسة "المكتب الأمريكي للإحصاءات" وساهم بها نحو/17/ألف شخص على التوالي في أربع دفعات في الأعوام: 1982-1985-1992-2002. لقد أظهرت هذه الدراسة بما لا يقبل الشك، أن جمهور القرّاء أدار ظهره تماماً للقراءة بشكل عام، ولقراءة الأدب بشكل خاص، وقد تناقل هذه الدراسة أصحاب دور النشر والمكتبات الكبرى في العالم، كما لو أن واحدهم يمسك بجمرة محرقة يريد التخلّص منها بسرعة، ويكادون لا يتحدثون بها إلا همساً، كما لو أنهم يخشون أن يسمع الحديث القراء، فتستيقظ لديهم هواجس ما زالت هاجعة. الدراسة ترصد التحولات التي طرأت على المدى الطويل على العادات الثقافية، وعلى أنواع القراءات ومواضيعها، وظهر فيها على نحو ساطع، تراجع دور القراءة في الثقافة بشكل عام، وقد ظهر هذا التراجع بوضوح بين القراء الرجال، فقد انخفض عددهم في السنوات العشرين التي رصدتها الدراسة، من (49,1) في المئة إلى (37,6) في المئة، في حين أن القارئات النساء، انخفض عددهن في الفترة نفسها من (63) في المئة إلى (55,1) في المئة، وتوضح الدراسة أن هذا التراجع يطاول الناس جميعاً بمختلف مستوياتهم التعليمية. كما تراجعت نسبة القراء الذين يقرأون كتاباً أدبياً واحداً على الأقل في السنة، بين حملة الشهادات الجامعية من (72,9) في المئة، إلى (52,9) في المئة، كما تبين عدم اهتمام الفتيان والشبان الصغار، بالأدب بشكل يثير القلق على المستقبل.. أن الأجيال الشابة والمراهقة أصبحت – في وقتنا الراهن – تمضي المزيد والمزيد من الوقت أمام الإنترنيت وشاشة الحاسوب، والفضائيات التي لا حدّ لانتشارها وتأثيرها، مما يمكن القول إن القراءة أصبحت من المنسيّات، وتحوّلت إلى فعل يتجاوز في فحواه المطالعة التقليدية، إلى أمر أكثر تعقيداً لكون مصادرة ازدادت تنوعاً وتشعباً.. في استطلاع للرأي لطلبة كلية الآداب في إحدى الجامعات، سئل (500) طالب وطالبة عن توفيق الحكيم وآثار الحكيم الممثلة، فتعرّف 90% على الممثلة، بينما عرف 10% فقط الكاتب الكبير، وفي استطلاع آخر شمل (200) طالب وطالبة عن سؤالين، الأول: متى يصادف يوم الكتاب العالمي، والثاني: متى يصادف يوم الحب "الفالنتاين داي" وأظهرت الإجابات، أن الجميع يعرفون موعد يوم الحب في 14 شباط "فبراير" وبالمقارنة لم يعرف أي طالب موعد يوم الكتاب العالمي، الذي يصادف 23 نيسان "إبريل" من كل عام؟! ومن يتابع البرامج الثقافية، وبرامج المسابقات التي تقدم في بعض الفضائيات العربية، يدرك جيداً مدى الأمية الثقافية لمعلومات بسيطة وأولية، بعضها تاريخي والآخر جغرافي والأمر نفسه في العلوم والأدب واللغة وغيرها.. لقد أصبحت "مقاهي الإنترنيت" واستراحات "البوب" و"توب ون" و"نايت كلوب" ومطاعم الوجبات السريعة" التي انتشرت في كل مكان، وتستأثر باهتمام الجيل الجديد وتستحوذ على اهتماماته ورغباته ومتعته أكثر بمرات عديدة مما يلفت نظره مكتبة أو كتاب.. لقد كانت الأجيال السابقة تشتري الكتب وتتبادلها، وتجتمع لتناقش فحواها ومحتوياتها، فتعم الفائدة والمتعة والمعرفة والثقافة الشاملة.. أما اليوم فقد أصبح الكتاب بالنسبة لأجيال اليوم، وكأنه من الأعباء الثقيلة التي يجب التخلص منها، لأنه يرمز إلى الكتاب المدرسي الذي نهمل صياغته وفقاً لجاذبية التأليف التشويقي الحديث، أو نبقيه مملاً بلا ابتكار، أو نقعّر لغته ونحنّط أسلوبه بعيداً عن العصرنة، ولا نريد أن ننسى كم وكم من المجازر ترتكب لدى تدريس كتبنا المدرسية بأسلوب الحشو المصطنع للمعلومات، مما يجعل الكتاب لدى التلميذ أو الطالب، وكأنه "بعبعاً" وليس جسراً للمعرفة والعلم والثقافة، وهذا ما أدى إلى انكفاء الجيل عن الكتاب، الذي يعبّر عن حاله، المشهد المأساوي المتمثل في تمزيق الكتب المدرسية، مع أفول آخر أيام الامتحانات، وهذا المشهد له دلالته الكبيرة عند الأجيال الجديدة، مما يراد لهم أن يقرأوا، والمشكلة أننا نريد لأبنائنا أن يتفوقوا دراسياً، ولا يهمنا أن يكونوا مثقفين.. مما لا شك فيه أننا لا نربّي الأجيال الصاعدة تربية قرائية، بل العكس صحيح، فبدلاً من أن نحبّب إليهم المطالعة، يفرض عليهم "المقررات" التي تؤمن لهم النجاح في الامتحان فقط، وكم من جيل نشأ وتخرّج وحمل شهادة تلو الشهادة حتى الجامعية منها، وربما "الدكتوراه" دون أن يكلّف نفسه عناء المطالعة أو حتى شراء كتاب ثقافي أو معرفي.. لم يكن الكتاب يوماً ما مستوعباً محايداً، فهو يحرّك ويغيّر، أو يؤسس ليعمّر، وهو المبتكر الاستثنائي بفكرته ومضمونه وتكوينه، ولا يمكن أن يرزح تحت غبار الاندثار، مادام في البشر توق إلى المعرفة، وعشق إلى الحرية، وسعي للحقيقة، وحب للنقاش والفهم.. الوسائل السمعية والبصرية، تزيدنا في أفضل الأحوال، اطلاعاً على أمور ناقصة، ولا تستكمل إلا بالقراءة.. القراءة تدعونا إلى الحلم والخيال والتأمل والرجوع إلى الذات.. التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة، تختزن المعرفة من دون وعائها، كأنها أوراق مبعثرة.. الحاسوب و"الإنترنيت" بنك معرفة، أما الكتاب فهو حضارة إنسان.. الوسائل الحديثة تضيف إلى اللغة المكتوبة، ولكن لا تلغيها ولا تتفوق عليها.. أن تقرأ.. يعني أنك حي، تعيش زمانك، تتفاعل معه، فالقراءة والاطلاع وسيلة تلاق وتواصل، خاصة إذا كان ما تطالعه متعلقاً بعملك، فيوسع الأفق ويزيد الخبرة ويقرّب من الكمال.. وليس أحلى ولا أجمل من أن تغمض عينيك بعد جلسة طويلة مع كتاب ومبدعين تحاورهم عبر المطالعة، وتطلّع على أفكارهم، كأنك تناقشهم، وهم يعرضون عليك خلاصة تفكيرهم وعصارة عقولهم وزبدة إنتاجهم. لا شك بأن تطور عالم التلفزيون والفضائيات والإنترنيت والبرمجيات، أخذ حيزاً كبيراً من وقتنا المتاح لنا، ولكن هذا يجب أن لا ينسينا الكتاب، على الأقل من الناحية النوعية، فقد ثبت علمياً أن المعلومات المستقاة من وسائل المعرفة الحديثة، هي معلومات سريعة تلائم عصر السرعة، وتجيب عن الأسئلة والتساؤلات بطريقة سطحية.. الفكر والثقافة الحقيقيان يتطلبان وقتاً وجهداً وتفاعلاً، ولا يحصل ذلك إلا من خلال الكتاب الذي يتيح للفرد أن يناقش الفكرة التي يقرأ، فيقبلها أو يرفضها، وذاك ما لا تتيحه الوسائل السمعيّة البصرية.. كثيرون يقولون في عصر "العولمة" لم يعد حاجة للقراءة، كيف لا نقرأ، والقراءة قدر وأمر وسنّة، إلا أنها قدر جميل، وأمر مطاع وسنّة تكوين، أما أنها قدر، فلأنه لا فكاك منها، وأمر مطاع لأنه منزل من الخالق وباسمة: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وهي سنّة التكوين، لأنها حاجة عقلية، تتحقق بتلبيتها متعة عظيمة، تماماً كمتعة سدّ الجوع، ومتعة النشوة النبيلة، في وقت مناسب، وبإرادة مستقيمة.. الأدوات الحديثة للمعرفة بكل ما فيها من تطور وتقنية، لا أجدها عائقاً يقلل من أهمية القراءة، وأرى خلافاً لما يظنّه المتشائمون، فالكتاب لن يموت، ولن يندثر، وهو مكمّل لكل ألوان المعرفة الحالية، أو ما سيكون منها في المستقبل، وأن القرن الحادي والعشرين بما جاءنا به من انطلاقة لا محدودة في عالم العلم والمعرفة، أو ما قد يبشّرنا به من عطاء.. لن يقضي على المطالعة والقراءة، لأن ما تقدمه أدوات المعرفة السمعية والبصرية الحديثة فيها جمود العلم الجاف، مثل وجبة غذاء جاهزة وسريعة.. بينما في القراءة عاطفة إنسان، وآراء مخضّبة بروحه وتجربته، وشتّان بين محاورة رجل ذي عقل نيّر وبين عطاء آلة.. يجب أن نقرأ من أجل تكريس الوجود بالفعل.. يجب أن نقرأ حتى نجد لنا مكاناً بين الذين يفتّشون عن الحقيقة، ويدافعون عنها.. أن نقرأ كتاباً فمعناه أننا مازلنا منحازين إلى الإبداع والمعرفة والمتعة الشخصية للكتاب. القراءة الآن، وفي المستقبل هي، من دون منازع، الوسيلة الأقوى والأمتع لتحصيل المعرفة أولاً، ولإدراك الوضع البشري ثانياً، ولإرضاء الذات ثالثاً.. يعلمنا "تاريخ القراءة" أن السلطان الذي تهبه الكتب لقارئها لا يضاهيه أي سلطان آخر، أليس محترفو القراءة هم "الصفوة" ومن يقرأ يحصل على الامتياز؟!

ارسال التعليق

Top