• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«من أحب تراب وطنه» رأى فيه كل الألوان

محمد الأسعد*

«من أحب تراب وطنه» رأى فيه كل الألوان
◄لا يصبح تأصيل أي نشاط إنساني ملحاً إلا في الأمكنة المقفرة والأزمنة المستباحة، لأن التأصيل استنبات للحدائق الخاصة، واستحواذ على الزمن الخاص. والاستنبات والاستحواذ فعلان بديهيان في عصور الازدهار والفعالية. الفن التشكيلي العربي، كأي فعالية إنسانية أخرى في هذا الوطن، بدأ مجدداً في الأقطار العربية مع الاصطدام بحداثة العالم الخارجي المعاصر، أو بالأحرى مع الاصطدام بالأضواء الكاشفة لمصابيح علماء الآثار وهواة المنحوتات والمخطوطات من الأوروبيين، وهم يندفعون لإزالة الانقاض عن تاريخ الحضارات القديمة في العراق ومصر وسوريا والجزيرة العربية والصحراء الكبرى. إشكالية هذه البداية تتأتى من أنها جاءت في ضوء هذه الاكتشافات التي شملت الآثار الدارسة والمخطوطات والأعراق والأجناس، وكل الشواهد القائمة منذ قرون تحت بصر إنسان هذه المنطقة من العالم من دون أن يحسّ بوجودها. ولا نستطيع تجاوز مثل هذه اللحظة الطريفة التي يصفها البريطاني لايارد حين كشف عمالُ الحفريات في شمال العراق في أواخر القرن التاسع عشر عن تمثال الثور المجنح، ففروا فزعين لاعتقادهم بأنّ الرأس الحجري هو رأس أحد الشياطين في خرافاتهم. كما لا نستطيع تجاوز تلك اللحظة التي يصفها ذات ليلة مقمرة، وهو ينتقل التماثيل الضخمة، حين وقف شيخ بدوي على حصانه يتأمل بصمت واستغراب عملية نقل الآثار إلى متاحف باريس ولندن، وحين استعصى عليه فهم دوافع هواية نقل الأحجار أدار حصانه ومضى مبتعداً. بين هاتين اللحظتين والزمن الراهن حدثت التجربة العربية المعاصرة بكل مفارقاتها. صحيح أن أحفاد هؤلاء العمال الفزعين، وهذا الشيخ الصامت، تجاوزوا هذين الموقفين، ولكن الصحيح أيضاً أن هذا الوجود ما زال مأزوماً بإشكالية البداية؛ إشكالية الانكشاف تحت أضواء الآخرين، وبمساعدة أدواتهم العلمية، نعني إشكالية معرفة الذات. نستطيع إدراك أبعاد هذه الإشارة إذا ما طرحنا هذا التساؤل: ترى إلى أي مدى يمكن اعتبار الفنان العربي وارثاً لكل إنجازات الماضي بحضاراته المتنوعة وأمكنته المتباعدة؟ الوجود في المكان بحد ذاته لا يمنح أفضلية ولا يهب امتياراً، وإنما الأمر أمر الوجود في الزمان. ولهذا يمكن بسهولة ملاحظة أن مراحل يقظة الفن العربي توازي ثلاث مراحل: مرحلة الوجود العضوي بالتجاور مع ثقافة غربية، ومرحلة إعادة الصلة بالثقافة الموروثة، ومرحلة إيجاد صلة بالمكان والزمان الراهنين، وممارسة هذه الصلة الأخيرة كمتابعة حضارية. مسيرة الفن العربي ستؤرخ بالمرحلتين، الأولى والثانية، وتقف هذه المسيرة الآن أمام مطالب المرحلة الثالثة. سنتذكر، غداً، أنّه في اللحظة التي يعجز فيها الإنسان عن قراءة نتاج الماضي سيكف عن اعتبار نفسه منتمياً إليه، أو أنّه أمر يخصه بأي شكل من الأشكال. وبما أنّ الإنسان لا يكف عن قراءة الماضي، بسبب إجادته للغة أخرى، وإنما بسبب جهله، وستبدأ منذ هذه اللحظة إشكالية الوجود أو أزمته. من هنا بدأت إشكالية الفن التشكيلي كأي فعالية ثقافية عربية أخرى. فلو كان الأمر يتعلق بالعجز عن كشف غموض اللغة ورموز التماثيل وآثار المدن الدارسة لهان الأمر، ولكنه يتعلق بدليل القراءة، ذاك الذي كان دليلاً قادماً من الغرب بكل معارفه ونظمه وتقنياته المتفوقة. هكذا بدأت القراءة الزائفة للذات، قراءة يظل خلالها الفنان عاجزاً عن إقامة الصلة بماضيه وحاضره معاً. ستذهب البعثات الفنية إلى أوروبا وتعود، وسيبتكر محمود صعيد في خضم هذه الحركة رؤية للريف المصري عجيبة يظهر فيها الفلاحون المصريون أكثر أناقة وحيوية من باريسي رينوار ونساء تتسيانو؛ إنها أكذوبة النهضة، وأكذوبة قراءة الذات تحت تأثير مباغتة مصابيح الآخرين. ولكن الفلاح الحقيقي سيكون بعيداً عن هذه اللوحة، وسيظل يبحث عن كنوز أجداده في "الجبل"، مرابطاً هناك، يستخرجها ويبيعها ليحيا. لم نتصل إذاً بالماضي الماثل في الحاضر، ذلك الذي يشعر به البسطاء من الناس شعوراً حدسياً في ضمائرهم، ولمعة في ظلامهم العميق، بل اتصلنا بفكرة زائفة عنه؛ إنّه ماضي الأرابيسك وأذواق المغول والمماليك. يروي الفنان جواد سليم في يومياته محادثة ذات دلالة عميقة جرت بين مجموعة من الفنانين العراقيين وأحد الفنانين البولنديين الذين وفدوا إلى العاصمة العراقية خلال الحرب العالمية الثانية. تبدأ المحادثة بسؤال للفنان البولندي موجّه إلى الجميع: "هل تحبون بلدكم؟"، فيسارع الجميع إلى الجواب: "لا.. لا.." عدة مرات. فيقول الفنان البولندي: "إنّ الفنان الذي لا يحب بلده لا يستطيع أن ينجز عملاً فنياً جديراً بالتقدير". وهنا يقول أحدهم: "ولكن ماذا في بلدنا من جمال؟ كل شيء لا يشع بالضوء كما هي الطبيعة والناس في بلدانكم". فيجيب البولندي: "لو أحببتم بلدكم لرأيتم في ترابه كل ألوان الجمال". ويعلق جواد سليم على هذا الحوار: "إن كلمات هذا البولندي لن تفارقني طيلة حياتي.. إنني أحسها محفورة في أعماقي". لقد احتجنا إلى من يعيدنا إلى أنفسنا مجدداً أيضاً. وكانت هذه هي المرحلة الثانية، مرحلة اكتشاف الزمن. إنّ علاقة الفنان، والإنسان بعامة، بذاته وذات أمُته ليست علاقة مجانية تُكتسب بالولادة أو بمصادفة بيولوجية، ولا هي علاقة غيبية يمكن أن تقوم هكذا كما لو كانت أمراً مقرراً في القدم؛ إنها علاقة ناتجة عن سيرورة ثقافية، إنها ولادة ثانية، إنجازٌ لليد والفكر. وما لم تمرّ اليد على الأشياء، وما لم يتحرك الفكر في تفاصيلها، فمن الصعب الانتساب إلى وجودها أو نسبتها إلى وجود الإنسان. الذات المغتربة إذاً، كانت بحاجة إلى إنجاز ما حتى تثبت جدارتها بالوجود وجدارة الوجود بها. وهذا هو مغزى حركة الفن التشكيلي العربي المعاصر بدءاً من الخمسينيات، حين حاولت منذ ذلك الوقت الاستحواذ على زمنها الخاص، أي تأصيل الوجود في العمق التاريخي. إلا أنّ الانتساب إلى التاريخ ليس قيمة مجردة متأتية عن احتذاء أو استلهام الروح التي حركت يد يحيى الواسطي، أو نحات الأفاريز الآشورية، أو معماري الصروح الهائلة في الكرنك فحسب، بل هي في صيرورة هذا التاريخ معاصراً، وفي الشهادة على عصر جديد، وفي تأكيد أشواق جديدة. ربما كان مبرراً، في سياق الثقافة الأوروبية وتغايرها المتواصل، أن يصبح ما يدعى "فوق الواقع" (السريالي) أسلوباً سلوكياً وذهنياً، ولكن لا شيء يبرر مثل هذا القفز إلى ما فوق بالنسبة لثقافة عربية لم تبدأ إلا بالكاد التعرف على ما بين أقدامها، أي على ذلك المجهول الكبير المتلاطم. إننا نلمح هذا الاختيار وهو ينمو ببطء، ونلمح اختياراً يبدو مرتكزاً على البحث عما هو تحت الواقع، فيكتب الفنان لؤي كيالي عن واقع آخر لا يبدو ظاهراً إلا لمن يتعمق تحت السطح الظاهر لمدينة عربية لاهية. ويكتب القاص محمد خضير عن صفات هذا التحت/ واقع، مستخلصاً مهمته كفنان من وجود مهمل من المشاعر والموجودات لا يظهر إلا بعد غوص عميق في مجاهل النفس والوطن والواقع الراهن. لا وقت للدهشة والانذهال، وما كان يبدو عالماً مركباً من ألغاز وأساطير غداً عالماً مفهوماً إلى حد ما، بفضل مقاربة الذات بالدرجة الأولى. وحين يقطع الفن هذه المسافة لا يكون جديراً إلا بالمنجزات الجادة. وكل انتكاسة أو عودة إلى الوراء لا تبدو شيئاً عابراً فقط، بل فكاهة خشنة أيضاً. إنّ الذاكرة، وهو أمر مؤسف، بالنسبة للفن التشكيلي، ليست بذلك الانتظام والوثوق اللذين يمنعان سريان الفكاهات، بل وعودتها بين الحين والآخر. فكما هو الأمر بالنسبة لفعاليات الآداب والفنون الأخرى، لم يحدث ان حظيت الذاكرة بقيمة استثنائية أو معيارية. لهذا من السهل أن يُعاد تكرار المراحل الماضية بين فترة وأخرى، ومن السهل تخطي كل المنجزات أيضاً والعودة إلى أي فترة يختارها الفنان وكأن شيئاً لم يحدث. الخبرة.. الخبرة التاريخية، وتمثل الأجيال والتراث ليست ألفاظاً تقال مناسبة أو مقالة، ولكنها أسلوب عمل، تقنية تبرز على أشد ما يكون البروز في اللوحة والمنحوتة والمعمار. وفي الحضارات الناضجة يعتبر الفنان نفسه محظوظا إذا فتح عينيه على تراث ضخم لأسلاف غابرين، على الضد مما يحدث في حالات الانهيار والسكون حين يكون احتقار وتجاهل الموروث من أبرز سمات هذه المراحل. هذه القضية تبدو أكثر إلحاحاً في هذا العصر، فقد وفرت وسائل الاتصال والمعرفة فرصة ليكون تحت بصر وفكر الفنان، لا تراث أمته فحسب، بل وتراث الإنسانية كلها أيضاً. أي مجموع خبرات تاريخية هائل الاتساع زماناً ومكاناً.. فأي مسؤولية أعظم من هذه؟►   *روائي وكاتب من الكويت

ارسال التعليق

Top