د. الشيخ ميثم السلمان
من المؤكد أنّ الحب هو الحب، وأن ما يصيب محبي الله هو عينه ما يصيب سواهم من المحبين مع الفارق المتعلق بشخص الحبيب. فالمحب لله يظهر الخشوع والتذلل لله، والخوف من فقدان رضاه وإغضابه، وهنا تجدر الملاحظة أنّ المحب لله لا يخاف من الله باعتبار عذابه للعاصين في النار بقدر ما يخاف من إغضابه سبحانه وخسارة حبه.
كما وتظهر على محبي الله مظاهر الطاعة لله، والزهد بما سواه، وهذه الخصال وإن كانت سلبية بما لا يتسع المقام إلى توضيحه – باعتبار غلبة عنصر الجذب العاطفي على عنصر الفعل الإرادي الاختياري – فإنّها بالنسبة للحب الإلهي هي محض الإيجابية، وهي عين الصلاح للشخصية الإنسانية، ويعود ذلك لأسباب عديدة أهمها اثنان:
الأوّل: هو أن طاعة في أوامره ونواهيه تؤدي إلى سعادة الإنسان، لأنّ الله بحكمته سبحانه وتعالى أمر بما هو خير ومصلحة للإنسان ونهى عما هو شر وفساد له.
الثاني: هو أن حب الله لا يغشى على عقل الإنسان لأن كل ما يأمر به الله يأمر به العقل السوي ويتناغم مع الإرادة الواعية، فحب الله الباعث على طاعته سبحانه وتعالى لا يخلق لدى الإنسان حالة من التعارض بين ما هو عقلاني واعٍ وإرادي وبين ما هو عاطفي وميل مزاجي... وهذا يؤدي إلى انتعاش الجانب الواعي للإنسان كلما أمعن في طاعة الله، حتى إنّ الإنسان لا يلبث أن يشعر بأنّ الله يقذف النور في بصيرته كما يقذف المحبة بطعمها الذي لا يجاريه طعم في قلبه.
ومن هنا ننطلق للتعرف عن قرب على صفات وخصال المحبين لله سبحانه وتعالى.
- أوّلاً: الخوف من الله وحده:
الخوف حالة إيجابية أوجدها الباري وأرساها في الإنسان حتى يحفظ نفسه من الهلكة والمرض والضياع، إلا أنّ الخوف يختلف عن الجبن، ولذلك نقول هناك نوعان من الخوف، هناك خوف حذر، وخوف جبن.
وعندما تقول الآية عن نبي الله موسى (ع): (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص/ 21)، فإنّه سبحانه يخبرنا عن الخوف الترقبي عند نبي الله موسى (ع) وهو خوف الحذر.
والخوف الترقبي يسيطر هنا لا الخوف الانهياري والانهزام الاستسلامي الجبان، لا خوف الصامتين والنائمين والخاضعين والخانعين بل خوف الكافرين بالطاغوت والثائرين في وجه جالوت، والناطقين في مجالس فرعون وهؤلاء لا يخافون إلا من الله سبحانه وتعالى.
الحديث يقول: "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء"... وبهذا المعنى يمكن أن نعثر على ثلاثة أنواع من الخوف الأخروي:
الأوّل: خوف من عقوبة الله
الثاني: خوف من فقدان ثواب الله
الثالث: خوف من نظر الله وإطلاعه على قبح العمل (خشية الحياء).
من جانب آخر فإن تعظيم الله سبحانه وتعالى في قلب العبد يورث القلب الحياء من الله، والهيبة له، فيبدأ الإنسان يستحي من ربه... تماماً كما يستحي من أبيه أو أمه إذا اقترف ما يغضبهما، مع الفارق في المقام والاعتبار، ولذا فإنّ الخائف من الله حذر وليس جباناً، فهو لا يخاف النهوض والقيام والجهاد والنطق والحركة والناس، ولكنه يخاف أن يقصِّر، أو لا يؤدي ما عليه بشكل تام وهكذا...
ولكن البعض منا يخاف الناس أكثر ما يخاف الله!!!
يخاف أن يراه الناس في مرقص، ولا يخاف أن يراه الله!!!
كأن الله لا يرى!
يخاف من لوم الصامتين إذا نطق بالحق!
إنّ المجموعة التي تواجه الصمت وتريد النطق والبوح بكلمة الله والتعريض بكلمة الشيطان، والفئة المؤمنة التي تحمل حقيبة الإصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي في أمة الله، والطليعة المجاهدة التي تضع على عاتقها التصدي لتغيير الواقع، الذي تراه كما تراه النخب الواعية فاسداً؛ مطالبة بأن تكفر بحالات الخوف المرضية التي توصل الجبن والمكوث والدعة واليأس والاستسلام.
- ثانياً: الطاعة في رحاب الله:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 31-32).
إنّ المحب لمن يحب مطيع، وروح المحب تعيش في جسم من يحب، فالحب كالحرب من السهل أن تشعلها... ومن الصعب أن تخمدها، والطاعة هي آية التسليم المطلق والخضوع الكلي، وهي نتاج التوحيد في العبودية والربوبية والمحبة والحاكمية، وتتم الطاعة من خلال الالتزام بتطبيق البرنامج الإلهي الذي يمثل مجموعة الأوامر والتكاليف، والتي تشمل كل جوانب وأبعاد حياة الإنسان ويطلق عليها اسم الشريعة.
وطاعة الله لها وجهان:
أوّلاً: امتثال الأوامر الإلهية والعمل للإتيان بالواجبات.
الثاني: امتثال النواهي الإلهية والعمل لترك المحرمات.
وهذا هو الحد الأدنى المطلوب من الإنسان الالتزام به، ويسمى: (التقوى)، وقد جاء في تعريف التقوى عن الإمام الصادق (ع): "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك" وهذا هو بعينه قوله عليه السلام: "التقوى ذكر الله عندما أحل وحرم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها".
- ثالثاً: الزهد فيما سوى الله:
الزهد هو ملكة الإعراض عن الدنيا وعدم تعلق القلب بها فالمحب لله سبحانه يتعلق قلبه بالله، ويعرض عما سواه، ونظر التفاوت شخصيات الناس نجد أنّ الزهد مراتب ويمكن أن نذكر منها:
أوّلاً: الزهد عن حرام الدنيا.
ثانياً: الزهد عن حلال الدنيا – المباح والمكروه
قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23)، وقال (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ) (آل عمران/ 153).
فمن الواضح أنّه إذا لم يتعلق القلب بشيء لم يتأثر بالحزن عند فوته، ولا بالفرح عند حصوله، وليس المقصود بالزهد في الدنيا رفضها، فقد كان سليمان وداود – عليهما السلام – من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك ما لم ينبغِ لأحد في زمانهما.
وليس الزهد – كما ورد عن أهل الحكمة – أن لا تملك شيئاً، ولكن أن لا يملكك شيء؟! وقد يكون الملك من متطلبات المهمة التي يقع تكليفها على العبد، وعليه أن يقوم بها، ولكن المحب لله والزاهد فيما سواه مع أنه يمتلك من الدنيا ما يمكنه من أداء دوره ولكنه لا يمكنه ما دام قلبه متعلقاً بحب الله أن يتعلق قلبه بما يملك، فهو دائماً ظاعن مستعد للسفر إلى الله.. قال الإمام الصادق (ع): "إنّ القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو".
- كيف تكون عبادة المحب؟
صلاته وصومه؟
المحب يحب الصلاة!
المحب يرتاح بالصلاة!
المحب لنتظر موعد اللقاء مع الله!
المحب يعطر نفسه للصلاة!
المحب يقرأ الآيات بقلبه وبلسانه... والمحب يصوم فكره عن ما دون الله ويصوم قلبه عن ما دون الله.
فصوم الناس هو صوم الطعام والشراب أما صوم المخلصين فهو صوم القلب عن النوايا الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عزّ وجلّ بالكلية، فهو انصراف عن غير الله إليه سبحانه وتعالى، تلبساً بمعنى قوله عزّ وجلّ: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام/ 91)، فبالتفكير بالأمور الدنيوية الدنية إدخال لغير الله في حرمه ومن دون إذنه. قال الإمام الصادق (ع): "القلوب حرم الله فلا تدخلوا حرم الله غير الله".
- ما هو سلوك الإنسان المحب:
خشونة أم رقة؟
قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159).
فغلظة القلب تؤدي إلى الانفضاض والآية تدعو الرسول إلى العفو عنهم والاستغفار لهم ومشاورتهم، فما رق قلب لله عزّ وجلّ، إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات، وساعياً لبرهنة عشق الله على أرض الواقع با؛لى الصور وأروع الطرق...
وما رق قلب لله عزّ وجلّ وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكّر إلا تذكّر، ولا بُصّر إلا تبصّر، وقلب يتألم عندما يرى حكم الله يكسرها؛ هو قلب ينزف مشاعره بدل الدم عندما يرى الاستكبار يبطش بامة الله؛ وهو قلب يبكي انحراف البشرية عن خط الفطرة بحرقة وألم...
وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً لذكر الله يلهج بذكر الله تعالى..." واجعل لساني بذكرك لهجا"... لساناً يتفنن في بلاغة شكر الله والثناء عليه سبحانه وتعالى.
القلب الشفاف الرقيق أبعد ما يكون عن معاصي الله عزّ وجل. فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله، وقد ورد أن: "قلب المؤمن دليله"... لكن أي قلب.. هو القلب الذي رق لله... هو القلب الذي يصنع الدموع الجارية... هو القلب الذي يحفر عبارة أحبك يا الله على الوجنتين... هو القلب الذي يذوب عشقاً في معشوقه الأوحد.
- ما هي نظرة المحب للأمور:
وتقديره وحكمه على الأشياء تتجلى نظرة المحب للأشياء من خلال عدة عناوين:
- التّسديد الإلهي:
يرى المحب نفسه موظفاً في المشروع الإلهي المقدس، ويرى نفسه مسؤولاً عن تطبيق حكم الله، وهو يا يبالي من أي شيء، حتى لو وقع الموت عليه، أو هو وقع هو على الموت، فالمحب تهون عليه الدنيا ببلائها، لأنّه يعلم أنّ الله يسمع ويرى وهو بكل شيء عليم، والمحب يتوكل على الله ولا يتواكل عليه... وهو يستشعر معية الله أينما كان...
ونحن لدينا في القرآن الكريم ما يدل على الصفة الرقابية: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد/ 4)، والصفة التسديدية: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 249).
والمحب يؤمن بالمدد الغيبي وتتنزل السكينة في قلبه فينطلق من منطلق التكليف ويبحث عن الفلاح أكثر من بحثه عن النجاح، والفلاح هو نجاح الدنيا والآخرة، أمّا النجاح فهو في الدنيا فقط. والمحب أوّلاً وأخيراً يرى أنّ المهم أن يكون مع الله وعند الله.
(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (التحريم/ 11).
(مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر/ 55).
المصدر: كتاب الحب والجمال
ارسال التعليق