لقد أراد الله للإنسان أن يكون عقلاً يفكِّر ويُبدع ويخطّط، ومن العقل يتحرّك العلم وينمو ويتطوّر ليطوِّر الحياة، من العقل يُنتَج معنىً للروح في شخصية الإنسان؛ لأنّ العقل يفتح آفاق الإنسان نحو الله سبحانه وتعالى، لينفتح بذلك كلُّ النور على كيان الإنسان كلّه، لأنّ الانفتاح في معنى العقيدة، وفي معنى الروح يجعل الإنسان ينفتح نحو المطلق، فتقترب محدوديّته كبشرٍ من بعض ملامح المطلق ليحلِّق في الأعالي. وقد ورد في الحديث الشريف عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): «إنّ الله سبحانه لمّا خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر» والعقل ليس جسماً مادّياً، ولكنّ ذلك الخطاب واردٌ على نحو الكناية، حيث أراد الله سبحانه وتعالى للعقل أن يَبرز بكلِّ عمقه وامتداده وخصائصه التي تعطي الحياة نموّها وتطوّرها، وتعطي للإنسان سموّه وانفتاحه، «ثمّ قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقاً أعزّ عليّ منك، إيّاك آمُر وإيّاك أنهى» فالله عندما يأمر الإنسان أو ينهاه فإنّما يأمر عقله؛ لأنّ العقل هو الذي يعي معنى الأمر والنهي، «وبك أُعاقب وبكَ أُثيب».
وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يثيب الإنسان بمقدار عقله ويعاقبه بمقدار عقله، يعني أنّ الظروف العقلية في وعيها للطاعة وفي وعيها للمعصية، هي التي تحدّد حجم الثواب وحجم العقاب.
ونحن عندما ندخل إلى آفاق القرآن الكريم، نجد أنّ القرآن يتحدّث عن كلِّ آيات الله في الكون، ليقول للإنسان: اقرأ كتاب الكون، وانطلق بعقلك لتدرس كلّ آيات الله في الكون وكلّ ما فيه من السُّنن والظواهر، لتطّلع على أسرارها، فتنفتح من خلال العقل على الله سبحانه وتعالى. ومن هنا، فإنّ الإنسان المؤمن -من خلال ما نستوحيه من القرآن الكريم- لا ينعزل عن الكون، ولا يمرّ به مروراً عابراً، ولا يعيش أمام ظواهره بروح اللامبالاة، وإنّما يفكّر في كلِّ ظاهرة كونيّة في كلِّ ما أودعه الله سبحانه وتعالى في النظام الكوني، أو سنّة تاريخية فيما ركّزه الله سبحانه في النظام الإنساني من قوانين وأنظمة، فقال للإنسان، أقرأ كتاب ربّك في سرّ عظمة الخلق، ولتحقّق الامتداد للعلم والإبداع.
لقد كانت مهمّة الإسلام أن ينطلق عقل الإنسان نحو الله ليقترب منه من خلال اقترابه في كلِّ الحياة، وأنزل الله سبحانه القرآن من أجل تنمية العقل، فكلُّ ما في القرآن الكريم هو حركة ومفاهيم قيّمة لابدّ للإنسان أن يتدبّرها من أجل أن ينمو عقله ويكبر.
ولابدّ لنا هنا من أن نتابع بعض الآيات القرآنية التي توحي بما ذكرناه، لنعرف كيف يجعل القرآن للعقل قيمة في أعلى مواقعها، وكيف يريدنا أن نتدبّر القرآن ونفهمه من أجل إغناء العقل والروح والانفتاح على منهج العلم. كما جاء في سورة البقرة، وهو قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)، في كلّ ما يمثّله هذا الخلق من أسرار وامتداد ومن غنى في الثروات الموجودة في السماء بكلّ رحابتها، وفي الأرض بكلِّ تشعّباتها، (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، هذا الاختلاف الذي جعله الله سبحانه لتنظيم حركة الزمن لتنتظم من خلاله حياة الإنسان، فبينما ينقص الليل ليزداد النهار ويزيد الليل لينقص النهار، أو يتوازنا، نجد أنّ النظام الزمني الكوني لم يختلف مع مرور ملايين السنين، ولم يتخلّف بمقدار ثانية واحدة.. (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ).. وسقوط المطر هو نظام طبيعي أودعه الله في أجواء السماء، بحيث إذا تجمّعت أنتجت المطر.. (فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ)، فهذا التنوّع من الحيوانات التي لا عدَّ لها ولا حصر في خصائصها وأوضاعها.. (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) في وظيفة السحاب في الحياة، خلال الحرّ والبرد وما إلى ذلك.. (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164).. فعليك أن تحرّك عقلك وتطلقه باتجاهٍ منطقي سليم، من أجل أن تُغنيه، ومن أجل أن توسّع علمك، وأن تبدع في ما تستمدّه من حركتك الإنتاجية والعلمية من خلال فهم أسرار الخلق وأسرار الطبيعة. وكلُّ ما جاء به الإنسان من اكتشافات لم تكن اختراعاً لقانون، وإنّما كانت استهداءً للقوانين الموجودة في الكون وحاول أن يستنتجها بطريقة وبأُخرى. ولذلك فإنّ كلّ الاكتشافات ليست خَلْقاً كما يعتبره بعض الناس، فالخَلق في حقيقته هو خَلق القانون، أمّا أن تصنع شكلاً من خلال ما أودعه الله سبحانه وتعالى من قوانين وسُنَن، فهذا ليس خلقاً، وإنّما استهداء للخلق.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق