• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القادة والأتباع في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

القادة والأتباع في القرآن الكريم
    من أهمّ قضايا الفرد والمجتمع والحياة الإنسانية هو عنصر السياسة والسلطة والدولة.. السلطة الفكرية والثقافية.. والسلطة السياسية، ونمط الحكم، وإدارة شؤون الأُمّة والبلاد..

فإنّ السّلطة السياسية، ونظام الحكم، أصبح العنصر المشترك الذي دخل في كلّ جانبٍ من جوانب الحياة ومكوّناتها..

السياسة تدخل في تحديد نمط الفكر والثقافة والسلوك، وفي أوضاع الاقتصاد، ومستوى الحياة المعاشية، وتوفير الخدمات، وفي الأمن والاستقرار وحماية الأُمّة والبلاد، وفي كرامة الإنسان وحقوقه، وفي آخرته وعلاقته بربّه..

لذا كان للفكر السياسي والعقيدي، وللمؤسسات السياسية والفكرية أثرها البالغ في حياة الفكر والجماعة، وأنماط السلوك ونظم الحياة، ولون العقيدة والثقافة ونظام الحياة..

ولأهمية هذا الأمر، كانت ولاية الأمر والإمامة والسياسة، والسلطة والخلافة، والقيادة والمرجعية الفكرية، من أهم قضايا الفكر والعقيدة والتشريع في الإسلام..

يُسجِّل المؤرِّخون وكتّاب السير أنّ أوّل خلاف حدث في المجتمع الإسلامي هو الخلاف السياسي، وهو خلاف في الإمامة والسياسة.. حدث بعد وفاة رسول الله (ص)

ومرجع المسلمين الأوّل في بيان إمامة الفكر والسّلطة والسياسة، وولاية الأمر، ومرجعية الأُمّة، هو القرآن الكريم..

تحدّث القرآن في مواقع عديدة عن ولاية الأمر والإمامة والخلافة الإنسانية على هذه الأرض، وعن الأتباع والسادة والأكابر في المجتمع.. ووضع الأُسس والمبادئ والقِيَم التي تقود الإنسان إلى الرّشاد والهدى والإصلاح، وتُحقِّق العدل وكرامة الإنسان، وتُجنِّبه الفساد والظلم والضلال والجريمة والانحراف.. وتُجنِّبه غضب الله وعذاب الآخرة، وتكسبه الجنان والنّعيم..

إنّ القرآن يعرض نموذجين من القيادات الفكرية والسياسية، ونموذجين من الأتباع والأنصار.. القيادة وولاية الأمر الرّشيدة، التي تقود في طريق الهدى والإصلاح، وإنقاذ الإنسان، وتحقيق خيره ومصالحه، وإقامة الحقّ والعدل، وحفظ حقوق الإنسان وكرامته وحرِّيّته..

ويدعو القرآن إلى اتِّباع تلك القيادات والمرجعيات الفكرية.. ويتحدّث عن هذا النمط من القيادات والأتباع. ويُثبِّت لها الأحكام والمبادئ والقيم التي تسير عليها، ويدعو إلى إطاعة تلك القيادات ونصحها وتسديدها والتعاون معها.

يورد القرآن العديد من النصوص المُتحدِّثة عن الأحكام والمفاهيم وصفات تلك القيادات والمرجعيات، كما يعرض نماذج من تجارب القيادات والشعوب والأُمم والأتباع؛ لنكون شاهداً حسِّياً ودليلاً تأريخياً، وتجربة إنسانية تتّعظ بها الأجيال اللاحقة. قال تعالى:

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) (الحج/ 41).

(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص/ 26).

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء/ 58).

(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس/ 20-21).

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس/ 35).

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور/ 54).

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر/ 38).

(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم/ 43).

وكما يُعرِّف القرآن بالقيادات الرشيدة، ويدعو إلى اتِّباعها.. فإنّه يُعرِّف بالقيادات والمرجعيات المُنحرفة والضالّة ويُحذِّر منها.. إنّها قيادات الظلم والفساد والجريمة والعدوان.. لا تجلب للبشرية إلا الخراب والدّمار، ولا تبني سلطانها إلّا على الباطل والاضطهاد.. فما وقع على البشرية من الظلم والتخلّف والفقر والجهل إنّ هو إلّا إفراز لتلك السياسات الظالمة، والقيادات المُنحرفة المُتسلِّطة على العباد.. لذا يريد القرآن تحرير الإنسان من تسلّط تلك القيادات وأتباعها وإزالة سلطانها وطغيانها، فإنّ مقدمة الضحايا هم أتباعها..

لنقرأ موقف القرآن من تلك القيادات.. ولنقرأ تجربة الندم والمأساة.. تجربة الأتباع الذين ألّهوا الطغاة، واتبعوهم، وشاركوهم في الظلم والفساد والدّمار، فكانوا حطب جهنّم، والظالم الغشوم الذي يظلم الناس لغيره فيخسر آخرته ودنياه..

يتحدّث القرآن عن القادة والسادة الذين جلبوا على شعوبهم وأُممهم وأتباعهم الخراب والدّمار، ويُحذِّر من تكرار تلك التجارب.. نقرأ هذه الثقافة في قوله تعالى:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ[1]) (إبراهيم/ 28).

(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب/ 67-68).

(وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) (الشعراء/ 99-100).

ويتبرّأ القادة من أتباعهم ويركلونهم بأقدامهم عندما يذهب الترف والقوّة والسلطان والملذّات والسلطة والمال.. ويقف المجرمون للحساب بين يَدَي الله تعالى.. بل وفي عالم الدنيا عندما يظفر الحقِّ بالباطل، وتدور عليهم دائرة السوء والعقاب والمهانة..

لنقرأ ما يتلوه القرآن الكريم على مسامعنا، تجربة إنسانية، فيها الدروس والعِبَر..

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا[2] يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة/ 165-167).

ويعرض القرآن صورة الحكم الفرعوني كنموذج للظّلم وعبادة الأتباع للقادة والكُبراء، كأسوء تجسيد للظلم والتّبعية العمياء:

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف/ 54).

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (سبأ/ 31-34).

إنّ الحياة في حقيقتها وفي معظمها تابع ومتبوع.. إنّ التّبعية الفكرية والسياسية والاجتماعية ظاهرة طبيعية في المجتمع البشري.

إنّ المذاهب والعقائد ومدارس الفقه والنظريات السياسية والأحزاب والتنظيمات المختلفة لها قيادات وأئمة ومراجع.. ولها أتباع وأنصار يتلقّون تلك العقائد والأفكار والمذاهب، ويعملون بالفتاوى والأوامر والتوجيهات والمواقف العقيدية الصادرة من القيادات والمراجع.. والقادة والحكّام وزعماء الأحزاب ورؤساء العشائر... إلخ، بل ورؤساء العصابات ومنظّمات الجريمة السرِّية يصدرون أوامرهم وتعليماتهم إلى أتباعهم.. ويتلقّى الأتباع تلك الأوامر كمُسلّمات، بل وتحظى عند البعض بدرجة التقديس والتسامي فوق النقد والمناقشة..

إنّ الذين يتبعون أوامر قياداتهم ومراجعهم الفكرية والثقافية ويقودونهم في طريق الجريمة والدمار.. إنّما يصادرون شخصياتهم وإراداتهم ويتحوّلون إلى جهاز مُنفِّذ لإرادة الطاغوت الفكري أو السياسي أو الاجتماعي.. فيتحوّلون إلى أجهزة منفِّذة للانحراف الفكري وممارسة الجريمة والعدوان.. إنّهم هم الذين وصفهم القرآن بقوله:

(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب/ 67).

إنّ ثقافة القرآن تدعو الإنسان لأن يُفكِّر في انتمائه لهذه العقيدة، أو لهذا المذهب، أو لذلك الكيان السياسي، أو القيادة الفكرية، أو السياسية، فلا يتّبع إلّا القيادة التي تقوده في طريق الهدى والصّلاح.. ويدعو القرآن الإنسان إلى أن يُفكِّر ويفهم قبل أن يتقبّل، وأن لا يُنفِّذ أمراً أو يُطيع أحداً إلّا بعد أن يتأكّد من صحّة الأوامر والتعليمات، وعدم مخالفتها لما أراد الله سبحانه..

فإنّ الكثير من قادة الأفكار والمذاهب والفتاوى، ضلّوا وأضلّوا ونشروا الفرقة والخلاف، وجلبوا الخراب والدّمار.. وكم من القادة والسياسيين دمّروا شعوبهم وأتباعهم بأوامرهم المعبِّرة عن مطامعهم الشخصية وعن أهوائهم ورعونتهم وحماقاتهم وتهوّرهم.. فكان الأتباع المُنفِّذون شركاء في الجريمة، وكانوا ضحايا لهذا الإتِّباع الأعمى.. أولئك هم الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم/28).


[1]- البوار: الكساد.. وعبّر به القرآن هنا عن الهلاك.

[2]- أنداد: شُركاء لله.

ارسال التعليق

Top