• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إصلاح النفس في شهر رمضان

عمار كاظم

إصلاح النفس في شهر رمضان

قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، فتغيير النفوس هو الشرط الأساس والضروري لأي تغير وتحول اجتماعي هام في عالم الإنسان. ولهذا نجد اهتماماً ملحوظاً في المدرسة الإسلامية بالنفس الإنسانية لضمان سلامة وصلاح التغيير الفوقي وديمومته فقد جاء في الحديث الشريف: "أعدى عدويك نفسك التي بين جنبيك" وحينما عاد الرسول القائد (ص) من إحدى غزواته قال: لجنوده المنتصرين: "عدنا من الجهاد الأصغر وبقى علينا الجهاد الأكبر وعندما سأله بعض الجنود: وما هو الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس وبقدر ما يحرز الإنسان المجاهد من النجاح في هذا الميدان الأهم يتقدر نجاحه في الميادين الأخرى لأنّ ميدان النفس هو الميدان الأصعب والأشد فإذا تمكن الإنسان منه كان على ما هو أقل منه صعوبة وشدة أكثر تمكناً، يقول أمير المؤمنين: "ميدانكم الأوّل أنفسكم فإن قدرتهم عليها فأنتم على غيرها أقدر وأن عجزتم عنها فأنتم على غيرها أعجز فجربوا معها الكفاح أوّلاً" ومن كان قادراً على حمل مائة كيلوغرام من الوزن كان على حمل الخمسين أقدر ومن كان قادراً على السباحة في البحار الكبيرة كان على السباحة في السواقي الصغيرة أقدر...

إنّ صلاح النفس وتعبيدها إلى بارئها أمر لا مناص منه لصلاح العالم الخارجي الظاهري للإنسان بكلّ أبعاده وميادينه "مَن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين النّاس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه، ومَن كان من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ"، وحديث آخر يقول: "مَن نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم النّاس ومؤدبهم". ونريد هنا أن نعرف دور الصيام كممارسة مفروضة على الإنسان المؤمن في توفير الشرط الضروري الأساس للتحوّل الاجتماعي وهو تغيير النفس. إنّ لهذه الفريضة العظيمة دور خطير في توفير الشرط الضروري للتغير الاجتماعي حيث نرى التغييرات الكبيرة التي تحصل للصائمين في شهر رمضان فهم بعد أن كانوا يأكلون ويشربون ويمارسون ألوان المفطرات أصبحوا في شهر رمضان مقيدين محددين وهم في هذا الشهر المبارك مطلوب منهم الامتناع والكف عن مقارفة الشر والرذيلة بصورة أشد وأقوى من ذي قبل كالغيبة والنميمة والكذب والغضب لغير الله وغير ذلك وهم يراد منهم أيضاً في هذا الشهر العظيم أن يمارسوا أنواع الأعمال على الجانب الإيجابي وقد وعدوا بالعطاء الجزيل كقراءة القرآن والصلاة والدعاء وتفطير المؤمنين وتحسين الخلق ولقد ندد الإسلام بالصائمين الذين لا يعرفون من الصوم سوى الجوع والعطش لأنّهم لم يدركوا الهدف الجوهري من الصوم وهو صناعة الإنسان السعيد القوي الصالح، وقد قال الرسول الأعظم (ص): "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". وقال الصادق (ع): "إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، إنما جعل الله ذلك حجاباً ممّا سواهما من الفواحش من الفعل والقول..". إنّ الدورة التربوية الشاقة واللذيذة التي يدخلها الإنسان المؤمن طائعاً مختاراً راضياً في شهر رمضان لكفيله بتغيير ذاته على هدى من ربه ومنهجه القويم.. انّ فترة ثلاثين يوماً ينتظم فيها المؤمنون في كلّ مكان من وطنهم الكبير وبوقت واحد بعمل واحد في جو قدسي ملائكي رباني لقادرة إذا صدقت النوايا وطهرت القلوب وعلت الهمم أن تغير النفوس نحو الأفضل وباتجاه الحقّ والخير والجمال وبهذا يتحقق من الصيام في شهر رمضان المبارك العامل الأهم في عملية التغير الاجتماعي وفي نفس الوقت يضمن لهذا التغير الاجتماعي الثبات والصلاح لأنّ الأساس كان هو التقوى. وقد جاء في كتاب الله (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) (التوبة/ 109). إنّها لفرصة كبرى وهدية ربانية من الرؤوف الرحيم إلى عباد الله ليكونوا كما يريدهم ربهم أن يكونوا أقوياء سعداء ولهذا يحث العليم الخبير على الصيام حتى في حالات جواز الإفطار حيث يقول في كتابه العظيم: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184).. ولهذا جعل الصوم فريضة الأجيال في كلّ زمان حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة/ 183)، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف الاستثنائية الخاصة غير العادية التي يمتاز بها شهر رمضان عرفنا القيمة العليا والمنزلة الرفيعة والدور الخطير لشهر رمضان في تغيير الذوات تمهيداً لتغيير المجتمعات. وإذا كنّا نجد صعوبة ومشقة في ممارسة الصيام فإنّ ذلك أمر طبيعي للأُمّة القائدة التي يراد لها أن تقود البشرية.

ارسال التعليق

Top