قوله عزّ من قائل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة/ 36). إنّ عاشوراء في التأريخ يعني اليوم العاشر من شهر محرام الحرام، وشهر المحرم كما هو معلوم أحد الأشهر الاثني عشر في السنة القمرية التي هي حسب منازل القمر في مداره السنوي حول الشمس وهذه الأشهر القمرية لا تقل عن التسعة وعشرين ولا تزيد عن الثلاثين يوماً وعليه فالسنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية بنحو من ثلاثة عشر يوماً. ويبدأ الشهر القمري بظهور الهلال على وجه الأفق الغربي عند غروب الشمس وينتهي بإكمال العدة أو برؤية الهلال ثانية. فهو أسهل ضبطاً ومعرفة من الشهر الشمسي بالنسبة إلى عامة الناس لهذا السبب اعتبرها الإسلام رسمياً في أحكامه وشعائره من صيام وإفطار وحج وغيرها. وأما أسماء هذه الشهور فهي عربية قديمة قبل الإسلام فالعرب من أقدم العصور اعتمدوا على هذه الشهور القمرية وسموها بهذه الأسماء المعروفة لمناسبات خاصة وقتية ثمّ زالت تلك المناسبات وبقيت الأسماء. وفي نفس الوقت اعتبروا أربعة منها حرماً أي محرمة تبعاً لما في الشرايع السماوية السابقة. ومعنى اعتبار العرب لأربعة من الشهور المذكورة حرماً أنّهم كانوا يتركون فيها الحرب والقتال والغزو والغارات وسفك الدماء لينصرفوا ويتفرغوا فيها إلى شؤونهم التجارية والزراعية والأدبية وغيرها فيقيمون فيها الأسواق ويعقدون الأندية والاجتماعات ويتفاخرون بانتاجهم الصناعي والأدبي. والأربعة الحرم هي عبارة عن الثلاثة السرد أي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، والواحد الفرد أي شهر رجب. وكما قدمنا كان احترام العرب لهذه الشهور الأربعة تقليداً دينياً لذا لما ضعف الدافع والشعور الديني عند العرب الجاهليين ضعف تبعاً لذلك هذا التقليد وصاروا يبدلون بعض هذه الأشهر الحرم بغيرها إذا دعت حاجتهم إلى ذلك كأن يحاربوا أو يغزوا في رجب مثلاً ويحترمون بدلاً عنه شعبان أو غيره وهكذا وهذا ما يسمونه بالنسيء الذي حرمه الإسلام وندّد به في قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (التوبة/ 37). فالغرض أنّ المحرم هو أحد الشهور الأربعة الحرم أي المحترمة منذ القدم. وأما عاشوراء فهو يوم العاشر منه كانوا يعتبرونه أقدس أيام السنة وأكثرها خيراً وبركة يطعمون فيه الفقراء ويتفقدون فيه المساكين والأرامل واليتامى. ويعملون فيه الخير. هذا مفهوم المحرم ومفهوم عاشوراء من قديم الزمان إلى أن جاء الأمويون إلى الحكم في العالم الإسلامي فهتكوا حرمة الأشهر الحرم في جملة ما هتكوا من الحرمات وارتكبوا في الشهر المحرم وفي يوم عاشوراء خاصة أبشع جريمة عرفها التأريخ فسفكوا فيه أقدس الدماء وقتلوا فيه أفضل وأشرف الذوات الإنسانية وذبحوا فيه الأطفال وقتلوا النساء ومثلوا بالشهداء وأحرقوا الخيام على آل رسول الله ورضوا جثث أهل البيت بحوافر الخيول. فتبدل بفعلهم هذا معنى المحرم وعاشوراء وتحول مفهومهما عند المسلمين إلى أيام حداد وأسى وصار المحرم موسماً خاصاً للاحتفال بذكرى أولئك الأبطال الذين أقدموا على تحمل المآسي العظام دفاعاً عن الحقّ والعدل وحقوق الإنسان؛ ففي الاحتفال بذكرى شهداء كربلاء وأبطال العاشر من المحرم سنة 61هـ. أحسن الأثر في نفوس النشء الجديد والجيل الصاعد والشباب الواعي لأنّ ذكراهم ومواقفهم تلقن الشباب دروس العزة والكرامة والشعور بالشرف الإنساني وتقوي في نفسه روح التضحية والفداء في سبيل الحقّ والعدل. فنشر أنباء أولئك الأبطال هو في رأي الخبراء أكبر خدمة اجتماعية وتربوية تقدم للمجتمع. ألا ترى العادة الجارية والتقليد السائد عند كافة الشعوب والأُمم حيث يحتفلون بين حين وآخر بذكرى ثوراتهم الوطنية وأبطالهم الثائرين وقادتهم المحررين ويقيمون لهم التماثيل ويرفعون صورهم في الشوارع والساحات العامة تخليداً لذكراهم. لماذا؟ نعم يعللون ذلك بأنّه أداء لحقهم وتقدير لصنيعهم أوّلاً ثمّ تشجيع وتشويق للشباب والنشء الجديد نحو الاقتداء بهم والسير على مبدئهم وفي طريقهم والقيام بمثل أعمالهم. ويقول الخبراء لولا هذه الذكريات لماتت روح التضحية في نفوس الناس وسادت روح الأنانية والفردية. فإذا كان كذلك أليس يجدر بثورة الحسين وموقفه يوم عاشوراء أن يشاد بذكراها في كلّ زمان ومكان. أي ثورة وطنية في العالم بلغت في عمقها وشمولها ونبل أهدافها وبركة نتائجها مبلغ ثورة الحسين (ع) انّها لم تخدم الشيعة فحسب ولا المسلمين فقط بل خدمت الإنسانية والحقّ العالمي.
فالمحرم إذاً في عرف العقلاء موسم سنوي لدورة دراسية تلقى فيها دروس من سيرة الحسين (ع) وأصحابه حول موضوع الإنسانية المثالية ولوازمها ومتطلباتها. ويوم عاشراء منه هو في الواقع يوم تظاهرة عالمية تأييداً للحقّ واستنكاراً للباطل ذلك الحقّ المطلق الذي تجسد في سيرة الإمام الحسين (ع) وتضحيته. وذلك الباطل المطلق الذي تمثل في جريمة الأمويين وسلوكهم. فهذه أبواب المدارس الحسينية مفتوحة فادخلوها بسلام آمنين. إنّ مدرسة الحسين يجب أن تفتح في كلّ مكان وذكراه يجب أن تقام في كلّ زمان تماماً كما صورهما هذا الأديب القائل:
كان كلّ مكان كربلاء لدى
عيني وكلّ زمان يوم عاشوراء
لا يوجد أي مبرر لاتخاذ أيام المحرم أو بعضها أعياداً أبداً بعد أن وقعت فيه تلك المأساة الخالدة والكارثة الإنسانية العظمى التي راح ضحيتها العشرات من ذرية رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبنائه وأهل بيته الطاهرين في تلك المجزرة الرهيبة التي لم يسبق لها نظير. ففي حديث الإمام عليّ الرضا (ع) قال: «إنّ شهر المحرم كان أهل الجاهلية فيما مضى يعظمونه ويحترمون فيه الظلم والقتال لحرمته لكن هذه الأُمّة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيها فقتلوا فيه ذريته وسبوا فيه نساءه من بلد إلى بلد...». وفي حديث آخر عنه (ع) قال: «إنّ يوم عاشوراء يوم تبركت به وفرحت فيه بنو أُميّة وآل مروان لقتلهم الحسين (ع) وأهل بيته فمن اتخذه يوم فرح وسرور جعل الله له يوم القيامة يوم حزن وخوف وكآبة ومن اتخذه يوم حزن ومصيبة جعل الله له يوم القيامة يوم فرح وسرور وقرّت بنا في الجنان عينه»، ولقد عبر بعض الشعراء عن منطق التدين والوجدان والضمير الإنساني حيث قال (ره):
ما انتظار الدمع أن لا يستهلا
أو ما تنظر عاشوراء هلا
كيف لا تحزن في شهر به
أصبحت آل رسول الله قتلا
كيف لا تحزن في شهر به
أصبحت فاطمة الزهراء ثكلا
كيف لا تحزن في شهر به
رأس خير الخلق في الرمح معلا
كيف لا تحزن في شهر به
ألبس الإسلام ذلاً ليس يبلا
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق