حتى تكون الصلاة تعبيراً حقيقياً عن ذكر الله تعالى ينبغي أن يصاحبها حضور القلب فيها، فالإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيما ورد عنه: «إذا أحرمت في الصلاة فأقبل عليها، فإنّك إذا أقبلت أقبل الله عليك، وإذا أعرضت أعرض الله عنك، فربّما لم يرفع من الصلاة إلّا الثلث أو الربع أو السدس، على قدر إقبال المصلي على صلاته». فحينما تتحدّث مع إنسان تحبُّه، ألا تكون ملتفتاً إلى كلّ كلمة تقولها له، يعني ذلك أنّ قلبك حاضر في مخاطبتك إيّاه. لذا فإنّ الأساس في حضور قلبك هو شعورك بأنّك تخاطب الله الحاضر السميع المجيب.
إنّ المانع من حضور القلب كثيراً ما يكون بتشتت الخيال وكثرة الوارد على القلب فيشعر كأن طائر الخيال يطير من غصن إلى غصن. والسيطرة على طائر الخيال تكون من خلال تربية روحية خاصّة يشعر الإنسان من خلالها بالحضور الإلهيّ الطارد لغيره. أن يلتفت قبل ذلك إلى أُمور اعتبرها الإمام زين العابدين (عليه السلام) أسباباً لعدم حضور القلب، وذلك في دعاء السَّحر المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي الذي فيه بيان الحالة ثمّ أسبابها، ففيه: «اللّهُمّ إنّي كلّما قلت قد تهيأت وتعبأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك، ألقيت عليَّ نعاساً إذا أنا صليت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت! ومالي كلّما قلت قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك»!
لذلك ينبغي للمصلي إحضار قلبه في تمام الصلاة أقوالها وأفعالها، فإنّه لا يحسب للعبد من صلاته إلّا مَن أقبل عليه، ومعناه الالتفات التام إليها وإلى ما يقول فيها، والتوجه الكامل نحو حضرة المعبود جلّ جلاله، واستشعار عظمته وجلال هيبته، وتفريغ قلبه عمّا عداه، فيرى نفسه متمثَّلاً بين يدي ملك الملوك عظيم العظماء مخاطباً له مناجياً إيّاه، فإذا استشعر ذلك وقع في قلبه هيبة فيهابه، ثمّ يرى نفسه مقصِّراً في أداء حقّه فيخافه، ثمّ يلاحظ سعة رحمته فيرجو ثوابه، فيحصل له حالة بين الخوف والرجاء، وهذه صفة الكاملين.
إنّ وقوف الإنسان في الصلاة أمام الله سبحانه وتعالى في خشوع وتضرُّع، يمدّه بطاقة روحية تبعث فيه الشعور بالصفاء الروحي والاطمئنان القلبي والأمن النفسي. ولكن ينبغي أن نعلم بأنّ الصلاة يزداد تأثيرها كلّما ازدادت فيها صلة الإنسان بربّه، لتكون حقّاً صلاة، ولتأتي ثمارها وتلقي بظلالها على حياة الإنسان، لذا قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 1-2).
أمّا إذا كانت الصلاة مجرّد عادة وروتين، أو كانت صلاة الكسالى، أو صلاة الرِّياء.. فإنّها ستكون ثقيلة على النفس، خفيفة في الميزان، وسيقل بذلك تأثيرها في حياة الإنسان. يقول تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 45-46).
ولكي نكتسب الخشوع، لابدّ من أن نشعر أو نتذكّر أنّنا نقف بين يدي الله تعالى، ربّنا وخالقنا، الذي منه بدأنا وإليه نرجع، فهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن.. هو مالك الوجود ومالك يوم الدِّين، الذي لا نرجو إلّا فضله ولا نخشى إلّا عدله.
وإذ يقف الإنسان أمام ربّه، يحس بالخشوع، بالخوف والرجاء، بالأمل المقرون بالعمل، بالرحمة المنسكبة على كلّ وجوده وهو يُكبِّر ويُهلِّل، ويُسبِّح ويحمد، ويشهد ويُسلِّم.. يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ويختم بالسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.. إنّه يُصلِّي وكأنّ الوجود كلّه معه يُصلِّي، ويخضع ويخشع ويسجد ويركع مع كلّ عباد الله الصالحين، من الأوّلين والآخرين، من الملائكة وعباد الله المقرّبين.. فيالها من لحظات أنس مع المولى تحمل معها هدوء الخلوة وحلاوة النجوى في نفس الوقت الذي تبعد عن النفس وحشتها ووحدتها، خصوصاً إذا اجتمعت مع المصلِّين في المسجد وصلوات الجمعة والجماعة. يقول الطبيب توماس هايسلوب: «إنّ الصلاة أهم أداة عُرفت حتى الآن لبث الطمأنينة في النفوس وبثّ الهدوء في الأعصاب».
يعتبر الاسترخاء أحد أساسيات العلاج النفسي الحديث في إزالة القلق، والوضوء والصلاة لخمس مرّات تهيِّئ للإنسان فرصة كبيرة للاسترخاء المرافق للراحة النفسية واستلهام الأمن وكسب الدعم الروحي من خلال الاتصال بالله تعالى، لذلك كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لبلال إذ حلّ وقت الصلاة: «أرحنا يا بلال»، وكان يقول: «قرّة عيني الصلاة»، وفي الأثر: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتدّ به أمر صلّى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق