• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصلاة زكاة للنفوس

د. حافظ مصطفى أيوب

الصلاة زكاة للنفوس
  - (عمود الدين) ما هو..؟ إنّه الصلاة، ففي الحديث الصحيح (عمود الدين) وقد ورد (الصلاة عماد الدين) والأول أصح.   - الصلاة مناجاة بين العبد وربّه: الصلاة مناجاة بين العبد ومولاه وهي سرّ الحياة وراحة القلب ونور الوجه، بل نور في كل شؤون الدنيا والآخرة، وتسليم الله تعالى وسلام على عباده الصالحين في الأرض وفي السماء أحياءً وأمواتاً، وإيمان يستقر في القلوب وعافيةٌ للأبدان وشفاء من كل داء وكفى بهذا الشفاء تكراره في كل ركعة. فالمصلي يكرر فاتحة الكتاب في كل ركعة في الفرض وفي النفل على السواء حتى في صلاة الجنازة يقرأ المصلي فاتحة الكتاب أو ليست هي الشفاء؟ نعم، إن لفاتحة الكتاب ما يقرب من أربعة عشر اسماً وقال العلماء إن كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى فمن أسمائها الشفاء لماذا؟ لأنّه ورد في الأثر عن أصحاب رسول الله (ص) أنّهم مروا بقرية فاستطعموا أهلها، أي طلبوا منهم الطعام فلم يجيبوهم، أي لم يطعموهم، فمرض شيخ هذه القرية أي كبيرهم فسألوا أصحاب النبي (ص) أفيكم من يُرْقي؟ قالوا: نعم فقرأ أحدهم فاتحة الكتاب فشفاه الله تعالى مباشرة. وكانوا قبل الرقية قد اشترطوا عليهم عدداً من الغنم مقابل هذه الرقية فوفّوا لهم بِجُعلٍ من الغنم فقال أصحاب رسول الله (ص): لا نأكل منها حتى نسأل رسول الله (ص). فقال: اجعلوا لي منها نصيباً وبهذا كان هذا الأجر حلالاً مؤكداً.   - الصلاة هي المفتاح بين العبد وربه: عود على بدء مع الصلاة ومكانتها في الإسلام إنها الركن الوحيد الذي يكرر كل يوم وكل ليلة وهي المفتاح بين العبد وبين ربّه، وهي شعار التعظيم كما هي رداء الاستجابة محفوفاً بالعناية وتوحيد الله عزّ وجلّ في سجود العبد لخالقه ورازقه فحين نزل قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة/ 74)، قال (ص): "اجعلوها في ركوعكم". وحين نزل قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) (الأعلى/ 1)، قال (ص): "اجعلوها في سجودكم". وقد ورد في الحديث: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا فقَمِنَ أن يستجاب لكم". ولذلك في غزوة بدر الكبرى يقول علي (ع): كنت كلما نظرت إلى رسول الله (ص) ليلتها اسمعه في سجوده يقول: "يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم". وكان (ص) يستفتح صلاة الليل، أي النافلة، يقول (الله أكبر كبيراً) ثلاثاً (والحمد لله كثيراً) ثلاثاً (وسبحان الله بكرة وأصيلاً) ثلاثاً (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه) ثلاثاً، وهمزات الشيطان: خطراته ووساوسه، والنفث هو النفخ، ونفخه أي كبره، وكان يقول (ص) أيضاً في صلاة الليل (رب أعْطِ نفسي تقواها، زكها أنت خَير من زكاها، أنت وليها ومولاها).   - الصلاة زكاة للنفوس: فالصلاة زكاة النفوس، والزكاة معها الزيادة والبركة والنماء.. ألا ترى معي أنّ الصلاة للإنسان بركة فالمصلي مبارك أينما وحيثما وجد، والمصلي كذلك ينمو ويزيد، ينمو علمه ويزيد برُّه، ويزداد ولده، قال تعالى: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 31). أي مدة دوامي حيَّا، ولذلك فإن عمر (رض) كان يقول لعماله، أي من يولهم أمور الناس انظروا إلى من يحافظ على الصلاة فولوه الأمر وكلفوه فهو لما سواها أحْفَظ ومن ضيعها فهو لما سواها أضيَع.   - المصلي المحافظ على الصلاة بار بنفسه وبوالديه وبالمجتمع: المصلي المحافظ على صلواته باراً بنفسه وبار بوالديه، وبارٌ بالناس والمجتمع الذي يعيش فيه حتى يتعدى هذا البر إلى كل شيء، قال تعالى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم/ 32)، وفي الأثر: "إن لكم في كل ذات كبد رطب صدقة"، وقال بعض العارفين: البرُّ لا يؤذي الذَّرَ، ولما للصلاة من أثر فعال في النفوس وتطهيرها وتزكيتها لا يقوم الإنسان بها إلا بعد الطهارة من الحدث والخبث. ويشترط كذلك طهارة الثوب والمكان، والطهارة الظاهرة إنما هي إشارة لصاحبها إلى طهارة الباطن من كل ما سوى الله تعالى. قال تعالى: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 89)   - الصلاة زكاة للإنسان من كل جوانبه: فالصلاة زكاة للإنسان من كل جوانبه بل تسمو به في الملأ الأعلى حتى جاء في الأثر (لو يعلم العبد ما انتقل) أي لو يعلم العبد ما ادخر الله تعالى له من الثواب والأجر ما انتقل من صلاته، وهي فوق ذلك مرآة صافية يرى من خلالها بل صفائها ما لا يراه إلا المصلي. ألمْ يَرَ رسول الله (ص) قطفا من العنب وهو في صلاته فتقدم ثمّ تأخر؟؟ فسئل عن ذلك فقال عرضت على الجنة فهممت أقطف قطفا من العنب ولو فعلت لكفاكم الدهر. هذا وقد كان عمر (رض) يرتب جيشه وهو في الصلاة وليس هذا شغلاً عن الصلاة وسهواً فيها وإنما هو من وحي الصلاة وبركتها.   - المصلي إذا خرج من بيته طاهراً قاصداً المسجد للصلاة فهو في صلاة: وإذا كان هذا الفتح على المصلي من الله عزّ وجلّ والعبد قائم بين يديه فقد أعطى الله عزّ وجلّ ثواب الصلاة للعبد وهو جالس ينتظر الصلاة ما دام في المسجد جالساً فهو في صلاة يأخذ أجرها وثوابها وذلك فضل الله عزّ وجلّ بل أكثر من ذلك إذا خرج من بيته طاهراً قاصداً المسجد للصلاة فهو في صلاة مادام ذهابه إليها ولقد جاء في الحديث الصحيح بمعناه أنّ الرسول (ص) قال: "يا سَعْدُ لا تشكين بين أصابعك ولا تفرقعها" (أي يمطها للأمام أو كسرها لأعلى) مادمت قد خرجت إلى الصلاة فأنت في صلاة وهذا من تمام نعم الله تعالى على عباده أن أعطاهم ثوابها بمجرد الخروج إليها، وقد يقول قائل كيف يَنهى (ص) عن تشبيك الأصابع حال الخروج إلى الصلاة؟ بل وداخل المسجد أولى مع أنّه (ص) قد شبك بين أصابعه وهو في المسجد قائلاً: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وهو حديث صحيح أيضاً. فالإجابة عن ذلك "أنّه فعل ذلك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تمثيلاً وتعليماً للمؤمنين بأنّهم كالبنيان، وهذه حالة واحدة للتعليم لكن أغلب أحيانه وأوقاته لا يفعله في المسجد ولا وهو خارج من بيته إلى المسجد.   - المصلي لا يشبك أصابعه ولا يفرقعها داخل المسجد: وقد قال العلماء: الحكم يكون للأعمّ الأغلب، الأعم الأغلب أنّه (ص) لا يشبك أصابعه ولا يفرقعها في المسجد. هذا ومن نور الصلاة أنّه لو كان في الصف رجل واحد قلبه متصل بالله تعالى فإنّ الله عزّ وجل يقذف من نوره في قلب عبده ويتعدى هذا النور، نور الصلاة إلى جميع من في هذا الصف وصدق الله العظيم: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور/ 40).   - الصلاة فتح خط مباشر بين العبد وربّه: والصلاة فتح خط مباشر بينك وبين الله تعالى فقد قال بعض السلف كنت إذا أردت أن أكلم الله تعالى قمت إلى الصلاة وإذا أردت أن يكلمني الله تعالى قرأت القرآن. وقد جمعت الصلاة بينهما، كما قال بعض السلف أيضاً الصلاة عرس المؤمن لأن في العرس أنواع من الأطعمة المتعددة الأصناف والأنواع ففي الصلاة كذلك التكبير وهو مفتاحها والتسليم وهو الانتهاء منها وبين ذلك القراءة، والركوع والسجود والدعاء، والجلوس كذلك بين السجدتين وهو من أركانها والدعاء أثناءها بنحو قولك: "رب اغفر لي وارحمني واهدني وأجبرني وعافني وارزقني". أو قولك "رب اغفر لي، رب اغفر لي" مرتين وكلاهما حديث صحيح وذلك من سنتها، والملائكة تفرح بالمصلي وتدعو الله عزّ وجلّ قائلة اللّهمّ اغفر له اللهمّ ارحَمه وتب عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث بأن ينتقض وضوؤه أو يتكلم بكلام الدنيا، وأكثر من ذلك.   - إنّ لله عباداً هم أوتاد المساجد: فقد جاء في الحديث الصحيح "إنّ لله عباداً هم أوتاد المساجد الملائكة تتفقدهم فإن غابوا سألوا عنهم فإن مرضوا عادوهم (أي ذهبوا لعيادتهم وزيارتهم) وإن كانوا في حاجة أعانوهم". والصلاة فوق ذلك كله هي تعبير العبد عن عبوديته لله تعالى وطلب العون والاستعانة منه تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5). وقد كتب فيها ابن القيم - رحمه الله تعالى – كتاباً سمّاه (مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين) في نحو ثلاث مجلدات كما قال – رحمه الله تعالى – عن الصلاة: وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك فإذا وقف الإنسان بين يدي الله في الصلاة وقف هذا بقلب مخبت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه نور الإيمان وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات فيرتع في رياض معاني القرآن ويخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها، وكمالها الأعظم وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله فاجتمع همه على لله وقرت عينه به وأحس بقربه من الله تعالى قربا لا نظير له ففرح قلبه له وأقبل عليه.   - إذا قال المصلي الله أكبر شاهد كبرياء الله: هذا ومن تفقه في معاني القرآن وعجائب الأسماء والصفات وخالطت بشاشة الإيمان قلبه يرى لكل اسم وصفة موضعاً من صلاته ومحلا منها فإنّه إذا انتصب قائماً بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيموميته وإذا قال الله أكبر شاهد كبرياءه وإذا قال سبحانك اللّهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك شاهد بقلبه ربا منزها عن كل عيب سالماً من كل نقص، محموداً بكل حمد، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال. وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك اسمه فلا يذكر على قليل إلا كثره ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة إلا أذهبها ولا على شيطان إلا رده خاسئا مدحورا. وكمال الاسم من كمال مسمّاه فإذا كان هذا شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، فشأن المسمى أعلى وأجمل (وتعالى جده) أي ارتفعت عظمته وجلت فوق كل عظمة وعلا شأنه على كل شأن وقهر سلطانه كل سلطان فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته أو في ألوهيته أو في أفعاله أو في صفاته. كما قال مؤمنوا الجن (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) (الجن/ 3).

ارسال التعليق

Top