• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مفهوم النصر الحقيقي

عمار كاظم

مفهوم النصر الحقيقي

إنّ ملحمة عاشوراء علّمت الأجيال كيفية الدفاع عن حريم الإسلام، وعلّمت المسلمين أنّ التضحية في سبيله هي من أوجب الواجبات، وإنّ الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم مقابل أن يعطيهم جنّة عرضها السماوات والأرض، فباعوا هذه الأنفس وتلك الأموال، وهجروا الأولاد والأزواج، طالبين رضا الله، مشتاقين إلى لقائه، هاتفين باسمه، مستبشرين ببيعهم هذا. إنّ ملحمة عاشوراء أخذت معالم نصرها بالظهور بعد أن سقط الحسين (عليه السلام) وأصحابه صرعى تعطّر دماءهم الوادي الذي راح يترنم بتلك الدماء الزاكية التي ملأت ترابه ليعم هذا العطر كلّ بقاع العالم، ويسمع صداه كلّ اصم ونائم. فاحبته الأرض لأنّه أحيا ميتها، وأنعش بوارها، واحبته الحقول لأنّه كساها من حلل النضار.

إنّ الإمام الحسين (ع) لم ينتصر عسكرياً في ساحة الصراع ولكنّه انتصر بدمه على الفكر المنحرف الذي شوّه الثقافة الإسلامية. إنّ أروع ما يميز حركة الإمام الحسين (عليه السلام) كونها حركة سلمية وإن سقط وأصحابه صرعى مضمخين بدمائهم الزكية وإنّه (عليه السلام) أعطانا درساً بليغاً في حقن الدماء عندما رفض أن يبدأ القوم بالقتال وعندما طلب من أصحابه أن يتخذوا الليل جملاً ويأخذ كلُّ واحد منهم بيد واحد من أهل بيته ويتركوه لوحده للطغاة لأنّهم يريدونه هو، وإنّه مستعد للشهادة والتضحية وحده وكم طالب القوم أن يخلوا سبيله ويدعوه يرجع من حيث أتى ولكنّهم أبوا إلّا أن يقتلوه بالطريقة المأساوية المعروفة فاستحقوا لعنة الله ورسوله إلى يوم القيامة.

إنّ الحسين (علیه السلام) أعطى بنهضته درساً في الغيرة والحمية للناس، درساً في الصبر والتحمُّل، درساً في احتمال المصاعب، وركوب الشدائد. لقد كانت دروساً بالغة الأهمية بالنسبة للمسلمين، فعندما يقال ماذا عمل الحسين (علیه السلام)؟ وكيف استطاع إحياء الإسلام بدمه؟ يكون الجواب إنّ الحسين بن عليّ قد نفخ روحاً جديدة في النفوس، وحرّك دماء المسلمين، وجعلها تغلي في العروق، وأثار الغيرة، ومنح العشق والقيم المثالية للناس.

إنّ الانتصار الحقيقي هو انتصار القيم الإسلامية وتقريرها في واقع الحياة لتكوّن الأفكار والعواطف والسلوك الاجتماعي والسياسي منسجمة مع المنهاج الإسلامي وقيمه، ولا قيمة ولا وزن للانتصار العسكري والسياسي إذا لم يكن قائماً على أساس ذلك المنهاج وتلك القيم، فقد يكون النصر العسكري أحياناً وبالاً على الأُمّة، لأنّه لا يمتّ إلى مبادئ الإسلام وقيمه بصلة؛ وقد أوضحت نهضة عاشوراء هذه الحقيقة في كلام الحسين (عليه السلام) مع بني هاشم «أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح».

ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة حيّة تحرّكت في عقل الأُمّة قبل عاطفتها، فكانت ثورة غنية بشعاراتها الصادقة وأهدافها النبيلة، ولهذا لم تكن كباقي الثورات، والتاريخ الإسلامي غني بالثورات، إلّا أنّ هذه الثورة هي الوحيدة التي لا تزال ذكرها يتجدّد ويتقدّم فكتبَ لها الخلود على مرّ الزمان. بالإضافة إلى أنّها أصبحت رمزاً لكلّ الثائرين، حتى إنّ الثائر الهندي غاندي والذي ثار ضد الاستعمار والاحتلال لخلاص شعبه قال مقولته الشهيرة: «تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر»، فإنّها ثورة نعيش أيامها في كلّ حين، فأينما يوجد ظلم في العالم تكون ثورة الحسين تقارع ذلك الظلم، وأينما يوجد محتل معتد في أي بقعة من العالم تكون ثورة الحسين الرمز الذي يقاوم ذلك الاحتلال، فكلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء. هكذا أثّرت النهضة الحسينية في النفوس، وحرّكت القلوب، وهزّت الضمائر، فأصبحت شعاراً للمظلومين من بني الإنسانية جمعاء. وهكذا يعيش الإمام الحسين (عليه السلام) رمزاً خالداً في كلّ معركة يحتدم فيها الحقّ ضد الباطل ويثور فيها المؤمنون المستضعفون على الطغاة المستكبرين، ويتجدّد نداء كربلاء الدم في كلّ أرض، ويتجدّد عاشوراء الفداء في كلّ يوم، ويتجلّى شعار: (كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلا).

ارسال التعليق

Top