◄استقبل الرسول جمعاً من أصحابه وقد عادوا من مهمّة قتالية قائلاً: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر" فظنوا أنّ الرسول (ص) يريد أن يرسلهم في مهمّة أكبر، فسألوه والسيوف في أغمادها عن ذلك، فقال (ص): الجهاد الأكبر جهاد النفس، وقال (ص) في حديث آخر: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه. وهذا الحديث مثل سابقه يتحدث عن حرب داخلية، عن إحكام الجبهة الداخلية في الوجود الإنساني، وهذا يدل على وجود صراع محتدم في أعماق الإنسان كما عبر الرسول عن ذلك.
وهذه حقيقة يؤكدها علماء النفس إذ أنّ الإنسان يتعرض إلى حالة من التمزق النفسي في أفكاره وعواطفه ومن ثمّ ينشأ صراع بين جبهتين، ولهذا نجد أفراداً يقومون بأعمال متناقضة تماماً فهو في لحظة هادئ وديع وفي أخرى سيِّئ الخلق، مرة يكون رحيماً عطوفاً ومرة يكون عديم الإحساس قاسي القلب، يجبن مرة ويتهور أخرى، ومرة يتجه إلى الله وأخرى ينصرف عنه، يوم في حلال ويوم في حرام، لا هو كافر ولا هو مسلم.
ماذا يعني هذا التقلّب في العمل والسلوك. من أين نشأ هذا التناقض؟ لماذا يسير البعض متغنجاً مثل طائر الحجلة ثمّ يتقلّع في مشيه مثل الغراب؟ إنّ هذا النشاز في العمل والتناقض في السلوك إنما ينشأ عن خلل في الأفكار وتمزق في العواطف.
وإذن يتوجب إنهاء هذا الصراع وإطفاء نار هذه الحروب وإرساء أسس السلام والاستقرار في أعماق النفس لينشأ نوع من السلام الحقيقي الدائم لا المؤقت بين الفكر والعاطفة، وإلى أن يتم التصالح بين الأفكار والعواطف في ذات الإنسان لا يمكننا إرساء قواعد السلام في المجتمع، وعلى حد تعبير أحد الفلاسفة المعاصرين: "كيف يمكن للمرء الذي يعش حالة الحرب في ذاته أن يعيش حالة السلام مع الآخرين".
وهنا نشعر مرة أخرى بحاجتنا إلى الدين، ذلك أن أيّة قوة لا يمكنها ترويض النفس، إذ أن قوى المال أو العلم أو المنصب هي مجرد وسائل تستخدمها النفس وآلات طيعة للهوى والرغبة البشرية، بل إنها تتحول إلى وسائل دمار إذا ما أصبحت في كف من به مسٌّ من الجنون، وإذن يجب أن نبحث عن وسيلة أخرى.
إنّ مواجهة النفس التي تحاول اجتياح العقل والتغلب على الأخلاق ليست من مهمّات العقل.
إنّ القوة الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المعجزة وكبح جماح ذلك الوحش الكاسر وتحويل ذلك العفريت إلى ملاك للسلام ورأب التصدع والاختلال في الضمير وتنظيم عمل وسلوك الإنسان وإرشاده إلى الطريق القويم إنّ هذه القوة هي الدين.
إنّ الدين يزخر بعبارات "الصراط المستقيم" و"الطريق الحق" وفي مقابل ذلك توجد الطرق الملتوية والمعوجّة، فالناس الذين يسيرون في طريق الحق المستقيم هم أولئك الذين يعيشون حالة التناغم والانسجام بين أفكارهم ومشاعرهم، أي بين قوة الخيال وقوة العقل، حيث استسلم شيطان الخيال والوهم إلى ملاك العقل، وحلّ الانسجام بين أحطّ الغرائز والرغبات إلى أسمى العواطف والمشاعر الإنسانية النبيلة، وانقادت الشهوات إلى الفطرة الطاهرة.
أسأل الله أن يوفّقنا جميعاً إلى السير في صراطه المستقيم، وأن يُجنّبنا الانحراف عنه يميناً أو شمالاً.►
المصدر: كتاب سلوك وأخلاق الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق