في الخامس والعشرين من شهر محرَّم الحرام، تصادف ذكرى وفاة الإمام عليّ بن الحسين - عليه السلام - زين العابدين وسيِّد الساجدين. هذا الإمام الذي عندما يُذكَر، فإنّه تُذكَر معه أصعب المراحل التي مرَّت على بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد شهد واقعة كربلاء بكلّ مجرياتها، وقد كان خلالها عليلاً لمرضٍ أصابه، وأمام عينيه، وعلى مرأى منه، استشهد أبوه الحسين - عليه السلام - وإخوانه وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه، وهذا أقسى ما قد يواجهه إنسان.
وبعد الانتهاء من المعركة، ورغم كلّ الآلام والمصائب والأحقاد وأغلال الأسر، لم تضعف ولم تهن من عزيمته، فهو بقي صلباً صلابة الإيمان الذي عاشه في قلبه، والمسؤولية التي تحمَّلها بعد استشهاد أبيه - عليه السلام -. لأنّ الإمام الحسين - عليه السلام - كان يتحدّث إليه كما يتحدّث الإمام إلى الإمام الذي سيخلفه؛ فكان يعطيه من عقله عقلاً، ومن علمه علماً، ومن روحانيته روحانيةً، ومن زهده زهداً، ومن عبادته عبادةً، ومن شجاعته وصلابته شجاعةً وصلابةً. وهكذا عاش الإمام - عليه السلام - عمق المأساة عندما كان يشاهد ما يجري على أبيه وإخوته وأعمامه وأصحابه، وبقيت تحفر في مشاعره وأحاسيسه، وكان يتذكّرها دائماً ويذكّر الناس بها، ولعلّ الإمام زين العابدين - عليه السلام - هو الذي أسّس لإحياء ذكرى عاشوراء، لأنّه كان يتحدّث عمّا حدث في عاشوراء للكثيرين من الناس بالطريقة التي يعيش فيها الناس الإحساس بالحزن.
لقد رأى الإمام - عليه السلام - أنّ الأُمَّة تحتاج في تلك المرحلة إلى إعادة تأهيل، لتخرج من جهلها وضعفها وهزيمتها التي كانت السبب في خذلانها للإمام الحسين - عليه السلام -، وللإمام الحسن - عليه السلام - من قبله، وقد تميّز أسلوبه باستخدام الدُّعاء لبلوغ هذا الهدف، فتحوَّل الدُّعاء عنده من كونه تواصلاً روحياً ووجدانياً بين الإنسان وربِّه، إلى وسيلة تغيير للمفاهيم والسلوك، فلم يعد الإنسان يكتفي في الدُّعاء بالطلب من ربِّه المغفرة والرحمة، والدخول إلى الجنّة والبُعد عن النّار، أو بلوغ الحاجات التي يحتاجها، أو كشف الهموم التي يريد من الله أن يفرِّجها له فحسب، بل صار الدُّعاء أداة تربوية وتثقيفية على المستوى الفكري والعقيدي والروحي والاجتماعي والسياسي.
وفي دعائه في «مكارم الأخلاق»، غيّر مفهوم النظر إلى الحياة، ليبيّن أنّ قيمتها بمقدار ما تكون في طاعة الله، وإلّا لا قيمة لها، ولذلك قال: «اللّهُمّ وعَمِّرني ما كان عُمري بذلَةً في طاعَتك، فإذا كان عُمري مَرْتَعاً للشيطانِ، فاقبضني إليك قَبلَ أن يَسبِقَ مَقتُك إليَّ، أو يَستَحكِمَ غَضَبُك عَليَّ». ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بالدُّعاء كوسيلة للتربية والتوجيه ولإيقاظ الأُمَّة، بل رسمَ في رسالته (رسالة الحقوق) ـ هذه الوثيقة التي شغلت بال الكثير من الحقوقيين في الغرب، رسم فيها للإنسان مسؤولياته في الحياة، فقد وسَّع دائرة المسؤولية، فالإنسان هو مسؤول تجاه ربّه، وهو مسؤول تجاه جوارحه؛ فللسان حقّه، وللسمع حقّه، وللبصر حقّه، وللبطن حقّه، ومسؤول عن كلّ عمل أمر به، وكلّ فعل من أفعاله، بأن يؤدِّيه على أصوله، وهو مسؤول عمّن يعيشون معه من الأقربين والأبعدين، وفي أيِّ موقع، وبذلك يرى الإنسان أنّ مسؤوليته تطاول كلَّ شيء في الحياة.
ولم يقف الإمام زين العابدين - عليه السلام - على هذه التوجيهات نظرياً، بل شكّل من نفسه نموذجاً يُقتدى، فكان مثالاً في العلم والعبادة والخشوع بين يدي الله، وفي الحلم وكظم الغيظ، وفي الصدقة وإعانة الفقراء، حتى إنّه كان يستبشر عندما يأتيه فقير، ويقول: «مرحباً بمن جاء يحمل زادنا إلى ربّنا». وتذكر سيرته، أنّه كان يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة، ولم يعرفوه إلّا بعد ارتحاله، عندما انقطع عطاؤه عنهم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق