• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدوافع النفسية للعبادة

أسرة البلاغ

الدوافع النفسية للعبادة

◄يرتكز مفهوم العبودية والتسليم لله سبحانه في نفس الإنسان المؤمن على أسس وقواعد نفسية تمنح فكرة العبودية حياة وحيوية، وقوة نفسية ووجدانية مؤثرة ودافعة إلى التعلق والارتباط بالله سبحانه.

وهذه الأسس النفسية أو المشاعر الذاتية العميقة الغور هي:

1-    الحب والشوق:

أي حب الله والارتباط به، وحب الله عندما يحتل عقل الإنسان وقلبه ويتفاعل مع عواطفه ووجدانه، ويملأ روحه ومشاعره، يغدو ديناً له، وطريقه في الحياة تظهر آثارها في كلّ سلوكه، وتنعكس روحها في كلّ نشاطاته وأحاسيسه، فتكون عبوديته لله قائمة في نفسه على أساس الحب والشوق الخالص لمعبوده، لأنّه يرى فيه كل صفة محبوبة، بل يراه منتهى الكمال والغاية.

لذا فإنّ هذا الحب والتعلق بالله، لا يفتأ يحركه ويدفعه نحو إلهه ومعبوده، فلا يستريح إلّا بالعمل الذي يقربه منه ولا يسعى إلّا لما يرضيه.

وهو حينما يمارس هذا الحب. ويعيش هذا الشوق.. يشعر بأنّه يعانق أجمل لذائذ الحياة، وأرقى مراتب السعادة التي تقربه من معبوده الذي يتجه نحوه بحب وشوق.

وإذاً فصور الأداء والتعبير العبودي التي يمارسها الإنسان من صلاة وصوم وجهاد ودعاء.. لا يتم معناها الحقيقي في النفس الإنسانية إلّا بعد الشعور بالحب الصادق لله والشوق إليه.

لذا ترى الإنسان المؤمن يحمل رسالة العبودية (الدين) بروحه وعقله، ويبشر بها ويفخر باعتناقها ويضحي من أجلها بماله ونفسه وراحته، وكل أحبائه، لأن كل ذلك لا يساوي شيئاً إذا ما قيس بحب المعبود عنده.

وقد أوضح القرآن الكريم بإيجاز شيق تلك العلاقة النفسية العظيمة بين المؤمن ومعبوده فقال:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...) (المائدة/ 54).

(.. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...) (البقرة/ 165).

وفي دعاء الرسول الأعظم (ص) نجد تفجراً صادقاً لينابيع الحب والشوق الإلهي فنقرأ "اللّهمّ ارزقني حبك وحب من يحبك وحب من يقربني إلى حبك. واجعل حبك أحب إليّ من الماء البارد"[1].

وها هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب حفيد الرسول (ص) يغترف من ينابيع الحب الإلهي ويصور لنا عذوبة مذاقه حتى ان من شرب منه لا يميل إلى سواه: "أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك"[2].

وقد تحدث الإمام جعفر الصادق (ع) عن علاقة المحب بالله وانطباع هذا الشعور على سلوكه ومشاعره فقال: "المحب أخلص الناس لله وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً"[3].

أما حين تخبو في روح الإنسان هذه الشعلة الوهاجة ويجف هذا الينبوع المتفجر، فإنّه يشعر بجفاف الحياة، ويحس بتراكم ظلمات النفس، وتعاسة العيش.. فيظل يتخبط في تعبده.. حيران في عالم الضياع.. بعيداً عن الله.

وهو وإن مارس العبادة في هذه الحال، فصام وصلى.. وعمل أعمال الخير، إلّا ان أعماله هذه ستبقى خاوية من مضمون العبادة الحقيقي.. خالية من محتواها الروحي الذي يرفع الإنسان درجات في عالم الرقي والكمال البشري.

2-    الخوف والرجاء:

والحافز النفسي الآخر الذي يعمل على ترسيخ العبودية في النفس والشعور الذاتي بها، هو شعور الإنسان بأنّه حقير تافه أمام عظمة الله، وليس من حقه التمرد والعصيان، فيمتزج هذا الشعور النفسي، شعور التصاغر أمام عظمة الله، وعظم جلاله مع الخوف والرهبة في نفس المؤمن فينتج التسليم والخضوع، والتعلق بالمعبود من ضياع الحب وحلول الغضب والعذاب.

ومثل ما يعمل الخوف من ضياع الحب وانفصام العلاقة بالله عمله الإيجابي في نفس المؤمن، كذلك يعمل الرجاء وهو استمرار الأمل وعدم اليأس من رحمة الله، وعطفه وحنانه وعدله – عمله المكمل لدور الخوف في ضبط موازنة النفس البشرية، واتجاه حركتها نحو الله.

فالمؤمن دوماً تنمو أحاسيسه ومشاعره في ظل الرجاء، وانتظار العطف الإلهي بعيداً عن اليأس والقنوط الذي يسد أمام الإنسان أبواب الأمل ويقطع عليه حركة الاصلاح وتغيير المواقف.

ولبواعث الخوف والرجاء هذه آثار نفسية وقوة حركية مؤثرة في سلوك الإنسان واندفاعه نحو الخير أو تباعده عن الشر.

ذلك لأنّ الخوف والرجاء يشكّلان في أعماق النفس المؤمنة طرفي معادلة متوازنين يتقاسمان الدوافع والسلوك الإنساني بأكمله.

وقد شرح لنا الإمام محمد الباقر (ع) أثر هذين الحافزين في نفس المؤمن، والعلاقة النفسية بينهما بقوله: "ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا. وقد جمع الله بينهما في وصف من أثنى عليهم فقال: يدعون ربهم خوفاً وطمعاً. وقال: يدعوننا رغباً ورهباً"[4].

وقد أضاء الإمام الصادق (ع) جوانب هذا المفهوم وأغناه بقوله: "الخوف رقيب القلب والرجاء شفيع النفس. ومن كان بالله عارفاً كان من الله خائفاً واليه راجياً. وهما جناحا الإيمان. يطير العبد المحق بهما إلى الله"[5].

فمن هذا العرض الموجز للحوافز والقوى النفسية الباعثة على إقامة العبودية الصادقة في النفس ندرك انّ الحب، والشوق، والخوف، والرجاء، هي البواعث النفسية المتفاعلة في أعماق النفس والدافعة إلى التعلق، والارتباط بالله سبحانه والباعثة على السعي بكل ممكنات الإنسان السلوكية، من فكر وشعور وعمل من أجل تحصيل مرضاة الله، ونيل ثوابه وإخلاص العبودية له.►


[1]- النراقي/ جامع السعادات، ج3، ص150.

[2]- نفس المصدر، ص152.

[3]- المصدر السابق، ص154.

[4]- جامع السعادات للنراقي، ج1، ص253.

[5]- نفس المصدر، ص254.

ارسال التعليق

Top