◄6- الجهاد والمقاومة:
قد تضطر جماعة المسلمين إلى الدفاع عن نفسها مقابل خصومها الذين يتربصون بها الدوائر، والدفاع بطبيعته عملٌ جماعيٌّ لا يسمح بالتفرد، غير أنّ القصور الفكري والتخلف الأخلاقي قد يدفع بالبعض إلى القيام بأشكال من الجهاد الفردي، الأمر الذي قد يترتب عليه بعض الضرر.
ومن هنا، جاء التوجيه الإلهي للمؤمنين؛ بدافع توحيدهم له واتباعهم لأوامره، إلى التزام سياسة العمل المشترك كما لو كانوا صفّاً كالبنيان المرصوص، كناية عن مدى حبهم وإخلاصهم لبعضهم البعض. وفي هذا السياق قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4).
وهكذا يعمل التوحيد كقيمة كلية والجهاد كقيمة متفرعة عنه على بناء مجتمع راشد وحضارة إنسانية تقف على قاعدة التكاتف الاجتماعي خصوصاً في الشدائد والمحن.
7- نبذ الفساد الاقتصادي:
التحضر الإسلامي التوحيدي لا يسمح بأي شكل من أشكال الاستغلال الرخيص لجهود الآخرين، بل إنّه يشجع على الإنتاجية ضمن الضوابط الشرعية والأخلاقية. وفي هذا السياق رفض المشرع الإسلامي (الربا) وعده كسباً غير مشروع وسيكون فاعله معلناً للحرب على الله تعالى والرسول (ص) بل إنّه عد الربا مرحلة كفرية تدعو إلى بغض الله تعالى لمن وقع فيه، لأنّه يريد لعباده البقاء، والربا ممحوق، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة/ 276).
وعليه، فإنّ توحيد الله، وما ينبثق عنه من قيم ومنها العدالة الاقتصادية، يسهم بشكل فعّال لدى الموحِّدين في حفظ الحقوق لأصحابها، وهذابدوره يرسي قواعد التحضر والرشد الاجتماعي.
8- الاستبداد السياسي:
قضت سنة الله في خلقه أن يكون هناك حاكم ومحكوم وحكومة تنظم علاقة الناس ببعضهم، ويأمل كلّ الناس أن تكون الحكومة عادلة وسبباً في إرساء العدل والقسط، غير أنّ النفوس الشريرة تتسلل إلى مواقع السلطة بطرق غير مشروعة، وذلك بعد أن تخلت عن قيمة التوحيد والخشية من الخالق، فتمارس الاستبداد بكلّ ما يعنيه من فساد وإفساد وتخريب.
لذلك نجد القرآن الكريم تكريساً لقيمة الحب الإلهي في النفوس يرفع شعار الرفض المطلق لجميع أشكال الاستبداد من خلال الذم المقذع لمن يكون فاسداً مفسداً، لأنّ مَن يفعل ذلك لا يكون موحِّداً وبالتالي لا يكون محبوباً لله، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) (البقرة/ 204-210).
وهذا النص الشريف بآياته الست يبيِّن حقائق عديدة، منها:
أوّلاً: أنّ الناس ليسوا جميعاً من الصادقين في شعاراتهم التي يرفعونها، بل قد يكون غِلُّهم وحقدُهم لا يخطر على البال. في مقابل شريحة صادقة مع نفسها ومع ربها، قد عمَر التوحيُ قلوبَ أبنائها إلى درجة التضحية بالغالي والنفيس في سبيل التوحيد.
ثانياً: أنّ شريحة المنافقين المتخلفة لا تكتفي بالفساد في نفسها، بل تتعداه إلى تجسيده في الخارج على شكل إفساد وإجرام وعدوان معنوي ومادي على الناس.
ثالثاً: أنّ شريحة المنافقين ترفض أن يُوجّه لها النصح والوعظ.
رابعاً: أنّه لا سبيل لنيل السعادة إلّا في توحيد الله تعالى والابتعاد عن الشيطان ونزعاته.
خامساً: أنّ الشريحتين كلتيهما ستواجهان مصيرهما بين يدي الله لينال الموحدون رضا الله وينال مَن خالفهم سخطَ الله وعذابَهُ.
وهكذا يعمل توحيدُ الله تعالى على صنع جيل من الناس يحرصون على النأي بأنفسهم عن كلّ ظلم وفساد وإفساد، لتتحقق الحضارة التوحيدية العادلة والرخاء والسعادة الدنيوية تمهيداً للرضا والرضوان في الآخرة.
9- نبذ العدوان والظلم:
تحرص الرؤية التوحيدية، كما جاءت في القرآن، وفي سياق بيان أصول بناء الحضارة الإنسانية والمجتمع الصالح، على أن ينال كلُّ ذي حقّ حقّهُ، كما جاءت في الشرائع السماوية التي شرّعها الله خالق البشر والعارفُ بما يصلح أحوالهم في الدارين (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14).
وفي هذا السياق نبذت هذه الرؤية جميع أشكال العدوان والظلم، باعتبار ذلك مبعداً عن الله تعالى وموجباً لبغضه وسخطه، فقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190). فلك – أيها الإنسان – أن تدافع عن نفسك وتطالب بحقّك، وإن تطلّب ذلك القتال، ولكن ليس لك أن يكون قتالك عدوانيّاً لا يُراعى فيه الشروط الشرعية والقيم الأخلاقية، وإلّا كان عدواناً وظلماً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).
وهكذا يصبح التوحيد عاملاً من عوامل صنع السلوك الحضاري والمجتمع الراشد، ويكون أداة صون لهذه الحضارة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 117)، وينالوا ما قضاه الله وقدره لمن سار وفقاً للسنن (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/ 170).►
المصدر: كتاب دور التوحيد في بناء المجتمعات والحضارات (رؤية قرآنية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق