◄إنّ الإسلام يدعو إلى التعارف، أي: إلى التجمُّع والتساكن وتبادل المنافع والمصالح والتعايش في أخذٍ وعطاء، وفي تأثُّرٍ وتأثيرٍ دائمين، بعيداً عن أية عصبيّةٍ جنسيّة، أو عنصريةٍ إقليميّة، أو نعرةٍ ثقافية. وهو بذلك لا يرى فضلاً لأحدٍ على الآخر إلّا بالتقوى. يقول عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). والتقوى تعني طلب الوقاية التي هي الصيانة من كلّ ما قد يُصيبك من ضرر ومكروه، والحفظ منها والحصانة والمناعة. والتعارف يقتضي القدرة عليه، وأكثر ما تتمثّل فيه القدرة هو قبول الاختلاف في الرأي والمخالفة في العقيدة.
إنّه ينطلق من أنّ الاختلاف كامنٌ في طبيعة الحياة وجبلّة الخلق؛ إذ أنّ الله تعالى خلق الكون وما فيه، ومن فيه على أساسٍ من الاختلاف البارز في التنوُّع والتعدُّد ممّا يتجلّى في مختلف الظواهر والمظاهر.
يقول سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ) (آل عمران/ 190).
ويقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(الرّوم/ 22).
ويؤكّد عزّ وجلّ هذه الحقيقة التي لا تبديل فيها، فيقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود/ 118-119).
أي: إنّ سنّة الله في الأرض تقوم على تباين البشر، سواء أكان هذا التباين يتعلّق بالجنس أم اللّغة أم الدين أم بأي مكوّنٍ من مكوّنات الحضارة والثقافة.
والإسلام بذلك يرى الأمر خاضعاً لإرادة الله، والسِّرُّ كامنٌ فيها، ويؤكّد الله تعالى هذه الإرادة وما يترتب عليها من عدم إكراه الناس على الإيمان، فيقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99).
وإنّها لآية كريمةٌ تدلُّ على أنّ الله لو شاء لجعل الناس في مستوى واحدٍ من الفهم والإدراك المفضيين إلى الإيمان. ومن ثمّ فإنّ رسوله (ص) لا يستطيع أن يُزيل هذا التفاوت مهما تكن محاولاته.
نعم، إنّ السرّ في ترك الاختلاف يرجع إلى أنّ الإسلام يدعو إلى الإيمان الذي يقوم على النظر والتأمُّل والاختيار، ويرجع كذلك إلى أنّ الله تبارك وتعالى أتاح الفرصة لمن يؤمن ويعمل الصالحات كي ينال حسن الثواب والجزاء بالقياس إلى مَن لا يؤمن ولا يعمل الصالحات وما ينتظره من وعيد؛ لأنّ الإسلام حين يُبيح الحرّية الدينية يعتبر أنّ النظر في الخلاف حولها متروك لله الذي يقول: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة/ 113).
ولعلّنا في هذا السياق نفهم معنى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256). أي: لا ينبغي إلزام أحدٍ بالدُّخول في الإسلام عن طريق الإرغام والاضطهاد والتخويف وما إلى ذلك؛ لأنّه دينٌ يقوم على التفكُّر والتدبُّر. علماً بأنّ الحرّية الدينية - في منظور الإسلام - تنطلق من أنّ الدين عقيدةٌ وإيمان، أي: شعورٌ ذاتيٌّ وداخليٌّ للإنسان، يقوم على الاقتناع وميل النفس واطمئنانها؛ لأنّه استسلامٌ وانقيادٌ لله عزّ وجلّ.
والذين يعيشون مع المسلمين في المجتمع الإسلامي من غير المسلمين فقد أظهر لهم الدين من التسامح المفضي إلى التعايش، ليس فقط ما يكفله لهم حرّية ممارسة عقائدهم، ولكن كذلك ما يجعلهم مواطنين في هذا المجتمع مندمجين فيه، موفوري الحرّية والكرامة، غير منعزلين ولا مهمّشين.
وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أُمور:
الأمر الأوّل: النهي عن مجادلة المسلمين لغيرهم ولا سيّما أهل الكتاب، إلّا بالتي هي أحسن. يقول الله عزّ وجلّ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت/ 46). وهو موقفٌ دقيق - لاشك - بحكم دقّة المسائل العقيدية التي أُثيرت، وما زالت تُثار على مستوى الحوار الإسلامي المسيحي طالما أنّ الإسلام - على نحو ما مرّ - دينٌ يُعنى بالفرد والجماعة معاً، ويسعى إلى قيام مجتمعٍ متآخٍ ومتكافل تسوده الحرّية والتسامح، ويشعر فيه كلّ واحدٍ بمسؤولية بنائه، والحفاظ عليه.
الأمر الثاني: حرّية ممارسة غير المسلمين لعقيدتهم، في طقوسها وشعائرها ومختلف مراسمها ومظاهرها الاحتفالية، مع الإقرار بأيّام العطل والأعياد، والسماح بإقامة أماكن العبادة، والسهر عليها بالمحافظة والصيانة والتنظيم، وكذا احترام العادات والأعراف. يصل حرص الإسلام على حرّية العقيدة مع احترام ممارستها، وعدم الإجبار على تعطيلها أو تغييرها مهما تكن ظروف الضغط متاحة إلى حدٍّ أنّه إذا طلب أحد المشركين من مسلمٍ أن يؤمنه ويحميه، فعليه أن يستجيب له حتى لا يُصيبه سوء، إلى أن يصل إلى مكان أمنه، وهو منزله، أو مقرّ قومه. يقول تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة/ 6).
الأمر الثالث: إطلاق الإسلام على مخالفيه الذي يعيشون مع المسلمين في نفس المجتمع أهل الكتاب، وهي نسبةٌ تتضمّن اعتراف المسلمين بالكتب السماوية والرسل الذي بعثوا بها.
ويعترف الإسلام بأصحاب الملل والنحل الأُخرى التي كانت معروفةً قديماً، وهي المجوسية والسامرية والصابئة.
ويبلغ هذا التسامح مداه عند الممارسة والتطبيق على صعيد المجتمع كلّه انطلاقاً من توجيهات الرسول الأكرم (ص) وفق ما نقرأ في هذه الأحاديث الشريفة: "مَن آذى ذمياً فأنا خصمه، ومَن كنتُ خصمه خصمته يوم القيامة".
"مَن قذف ذمّياً حدّ له يوم القيامة بسياطٍ من نار".
"ومَن قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنّة".
وإذا كانت الضرورة في كلّ عصرٍ تقتضي تقوية هذه الدعائم؛ فإنّها تبدو اليوم أكثر إلحاحاً؛ بسبب سوء فهم مدلول التعايش الحقّ - سواء بالنسبة للمسلمين أو لغيرهم - وما ترتّب عليه من تفريطٍ في شؤون الدين وابتعادٍ عنه في كثير من جوانب الحياة، وانحراف سلوك الأفراد والجماعات، وما نتج عن ذلك كلّه من ظروفٍ متأزّمة يعيشها المسلمون ومن يُساكنهم بفعل عوامل داخلية وخارجية.
وهي تقتضي البدء بإصلاح الذات ومعالجة مشاكلها بما يقوِّي المجتمع بل المجتمعات الإسلامية في بنيانها الداخلي، ويجعلها قادرةً على الصمود ومواجهة كلّ التحديات والاعتداءات.
إنّ العصر الحاضر هو عصر التواصل البشري، وعصر التحاور الثقافي، ويمكن القول إنّه قرن التدافع الثقافي.
وهذا التوجه مهمٌّ ومفيد يلزم المسلمين استقباله، والتعامل معه بإيجابية وارتياح؛ لأنّ منهجية الحوار بالبيان والحكمة منطلقٌ أساسيٌّ في منهج القرآن الكريم وأدبيات الدعوة إلى قيم الإسلام، التزاماً بالتوجيه الرباني جلّ شأنه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
المسلمون مطالبون بالسعي للحوار مع الناس بما يُحقّق وضوح الرؤية ويجمع الكلمة على المبادئ والقيم الربانية الخالدة. وهذا قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (آل عمران/ 64).
ولعلّك تدرك أنّ هذه الآية الكريمة جاءت لتقرِّر مبادئ إسلامية في علاقات المسلمين بغيرهم:
- مبدأ الاعتراف بالآخرين.
- مبدأ الحوار وأهمّيته.
- مبدأ استشراف المستقبل في ظلِّ علاقاتٍ إنسانيةٍ سامية.
إنّ الإسلام الذي نعتقده ونفهمه وفق النصوص الثابتة القاطعة من القرآن والسنة النبوية المطهّرة، هو دين تعالى الذي أرسل به الرسل جميعاً، منذ أبينا آدم (ع) وحتى سيدنا محمّد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وفق مسمّياتٍ ومعانٍ تناسب الزمان والمكان لكلّ قومٍ على حسب مقتضى حالهم وحياتهم التي كانوا يعيشون، وأنّ سيدنا محمد (ص) بُعِث لتختم به دعوة الله تعالى ورسالاته، ولتكتمل بما جاء به دعوة الأنبياء والرسل من قبله، في ظروفٍ من الزمان والمكان تحقّق للناس بها من أسباب التعارف والتعايش، ما يصلح معها مخاطبتهم جميعاً بتمام ما أراد لهم ربهم وخالقهم من مبادئ وقيم ومنطلقات، تستقيم معها حياتهم، ويتحقّق لهم بها الخير كلّ الخير، وهذا واضحٌ في قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 136).
الأُمّة الإسلامية تحكم علاقاتها وتحاوراتها مع الآخرين قاعدةٌ أساسٍ تقوم على أساس صحّة كلّ علاقة، وسلامة كلّ حوار.
إنّ مبدأ المسلمين وهم يعرضون مبادئ وتعاليم الإسلام على الناس تحكمه قيمٌ وآدابٌ لا ينبغي للمسلمين تجاوزها ومخالفتها ولا يصحُّ معها تجريح وسباب معتقدات الآخرين، وهذا صريحٌ في قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/ 108).
والمجتمعات الإسلامية وفق تعاليم الإسلام وقيمه، مأمورةٌ بالتزام العدل وإنصاف الناس مع وجود الاختلاف في العقيدة وقيام الخصومة والشحناء معهم؛ حيث يأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8).
إنّ منهج القرآن يُعلّم المسلمين ويؤكّد عليهم: أنّ البشرية مدعوّةٌ بأمر ربها جلّ شأنها للتعارف والتعايش وفق القيم والمعايير الربانية على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم وألوانهم، وأنّ إتيان الحقّ ومجانبة الباطل هو أساس التنافس بينهم، وهو أساس معيار القرب والبعد من تقوى الله ومرضاته، وهذا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).
مجتمعات الأُمّة الإسلامية يحددها - وهي تتعامل مع غيرها من الناس - تعاليم الله وتوجيهات الرسول (ص)، التي تطالبها وتؤكّد عليها السعي في تحقيق مصالح العباد، وجلب النفع العام لهم، وأنّ ذلك السعي الصادق هو السبيل لنيل محبّة الله تعالى والفوز بمرضاته؛ حيث جاء في الأثر: "الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله".
إنّ الإسلام يؤكّد: أنّ أساس دين الله تعالى يقوم على إقامة العدل بين الناس، وشيوع قيم الإحسان بينهم، والعمل على مكافحة الفحشاء والمنكر، ومحاربة البغي في حياتهم، وقد عظّم فقهاء الإسلام قيم العدل حتى جعلوه معياراً لنصرة الله وتأييده لأيّ ملّةٍ تقيمه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).
المسلمون يعتقدون بمشروعية التدافع الإنساني، ويؤمنون بأنّ منهجية التدافع بين الناس القائمة على أساس التنافس في جلب المنافع ودرء المفاسد كفيلةٌ بتحقيق الحياة الأفضل لهم جميعاً، وتوفير الأمن والاستقرار، وصرف الفساد عن الأرض، وهذا مؤكّدٌ في قول الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 251).
ومن جهةٍ أخرى فإنّ التدافع بين الناس لجديرٌ بحماية حرّية الإنسان في معتقداتهم وأنماط حياتهم، وصيانة معابدهم على اختلاف مللهم، وهذا في قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج/ 40).
ومن مفاخر الفقه السياسي في الإسلام أنّ الشرائع جاءت لتحقيق مصالح العباد؛ حيث إنّ مبناها يقوم على تحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين.
الأُمّة الإسلامية تعتقد وتؤمن بأنّها شريكةٌ مع غيرها في منهج الاستخلاف لعمارة الأرض، وليست محتكرةً لهذا المنهج، وأنّ غياب المسلمين أو تغيُّبهم عن المشاركة في منهج الاستخلاف، أو تجريد هذا المنهج من القيم الربانية سيؤدّي - لا محالة - إلى فساد الأرض، ودمار حياة الإنسان عليها، وهذا مؤكّدٌ في قول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمّد/ 9-10).
إنّ مبادئ الإسلام وقيمه تعلّم المسلمين وتؤكّد عليهم ألّا يبخسوا الناس أشياءهم، وألّا يحتقروا كدحهم وجهدهم في كلِّ عملٍ بنّاء، يُحقِّق الإعمار والإبداع الحضاري.. وتُلزم تعاليم الإسلام المسلمين احترام وتقدير كلّ عطاء خيرٍ في ميادين القيم والسلوكيات، وفي ميادين الماديات والوسائل والمهارات، يلتقي ذلك مع قيم وتوجيهات منهج الاستخلاف الرباني في عمارة الأرض، بل إنّ القرآن الكريم يعتبر احتقار سعي الناس وبخس مشيهم الإيجابي الفعّال المثمر في الأرض من العبث والإفساد، الذي يمقته الإسلام، ونهى عنه، وهذا في قوله تعالى: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/ 85).
إنّ الإسلام مثلما وضع ثوابت ومنطلقات، وقدّم قيماً ومبادئ كلِّيّةً لضبط أدبيات ومقوّمات التعايش البشري والتعارف الإنساني، فإنّه - أيضاً - وضع ثوابت ومنطلقات وقدّم قواعد وأُسساً لضبط حركة مصالح الناس، وقدّم قيماً وأدبيات لإحكام سيولة تبادل المنافع بين المجتمعات في إطار التعايش والتعارف بينهم.
وبعد، فإنّ المسلمين وفق هذا المنهج الرباني العادل، وموروثه القيمي والتشريعي، وفي ضوء قدراتهم المادية والسياسية، ليجدون أنفسهم مؤهّلين كلّ التأهيل لأداء مهمّتهم ومساهمتهم الإيجابية الفعّالة في معترك التدافع الإنساني البشري؛ لإقامة نظامٍ عالميٍّ عادل، يُنهي حالة القلق والذُّعر التي تحيق بالناس، ويصرف أسباب الفساد عن الأرض، ويضع حدّاً لتدهور العلاقات الدولية في أكثر من موقع. ويزيل عوامل الاضطراب والجشع والاصطراع السياسي والاقتصادي بين الأُمم. ويضبط حركة التدافع الإنساني، ويُقيم موازين القسط للتعايش والتعاون البشري. ويرتقي بمنهج التبادل والتكامل الثقافي، بما يحقّق للناس تطلعاتهم لحياةٍ إنسانية آمنة مطمئنّة تنعم بالأمن والاستقرار والعدل والسلام.
والمسلمون من أجل هذه المهمّة الجليلة النبيلة على استعدادٍ لكلّ حوارٍ بنّاء مع أي جهةٍ معينة، وفعّالة شعبياً ورسمياً للسير بالإنسانية نحو الخير والفلاح.
وقد لا يخفى على أحدٍ أنّ الأُمّة الإسلامية تمتلك رصيداً ضخماً من القيم الهادفة يمكن استثماره فيما يُفيد الإنسانية.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق