أ. د. عبدالكريم بكّار
◄إنّ تنمية أي جانب من جوانب الحياة هو في الحقيقة عمل جزئي، لا يتم في فراغ، ولا من غير اعتبارات وشروط متعددة؛ فمن الصعب مثلاً أن تجعل الناس يقرؤون بنهم وتعطش وهم يكدون بياض النهار وجزءاً من سواد الليل من أجل سد الرمق.... ومن العسير أن يوجد لدينا مراكز مجانية لتدريب الناشئة على استخدام الحاسب الآلي وبعض الدول لا تستطيع تقديم الكتب المدرسية لتلاميذها، أو لا تستطيع تأمين أماكن لهم في المرحلة الابتدائية...
إنّ نظرة الناس للمعرفة عندنا ما زالت تصنفها مع الأمور الثانوية، ومن ثمّ فإن قلة من الناس أولئك الذين سيضغطون على مصروفهم الشهري من أجل شراء كتاب!.
وإن رؤية الناس لهشاشة تأثير المثقفين في مسيرة الحياة الاجتماعية سوف تدفعهم إلى الزهادة بالعلم، وكل ما يدلي إليه بسبب.
مع هذا فإنّ التأكيد على بعض الأطر والوسائل التي تساعد على تنمية المعرفة سيكون، مفيداً، وهو جزء من العلاج الذي نتشوف إليه. ويمكن أن نذكر منها ما يلي:
1- تأسيس علم الجهل:
كان العلم في الماضي – على اتساعه – محدوداً بالنسبة لما هو موجود اليوم، وإن ما لدى طالب في كلية الطب من معلومات اليوم أكثر وأدق مما كان لدى شيوخ الأطباء في العصور الماضية، وليس هذا دليلاً على شيء سوى كثرة المعلومات وتحسن إمكانات اختبارها.
إنّ من الواضح أن جهلنا يزيد، حيث تتضاعف المعرفة فيما بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة! وإن نصف العلماء الذين عرفهم العالم في تاريخه الطويل يعيشون بيننا الآن! وعلى هذا فإذا كانت معلوماتي الآن هي واحد على الألف، فستكون بعد خمس عشرة سنة واحدة على ألفين، في أحسن الأحوال!.
إنّ من الضروري أن نغرس في أذهاننا جميعاً أن ما لدينا من العلم – مهما كان كثيراً – قليل. ودقته وعمقه وصدقه، كل ذلك نسبي وظني في أكثر الأحيان ولابدّ – على هذا – من أن نقدم المعرفة للناس بصياغة مفتوحة قابلة للإضافة والتعديل، كأن أقول: هذا ما أراه أنا، وهذا ما يغلب على ظني وهذا ما هو ثابت عندي حتى الآن....
ولابد مع هذا مع إشعار الأجيال التي نعلِّمها بأن يعرفوا أكثر وأكثر حتى لا تتفاقم نسبة انتشار الجهل وفجاجة المعرفة بينهم.
إنّ على الواحد منا أن يكافح في سبيل ألا يصاب بالتهميش العلمي، ويفقد سيطرته على المعرفة، ويفلت الزمام من يديه!.
2- لابدّ من جهود جماعية لتوفيرالكتاب:
الخطوة الأولى على طريق الارتقاء بمعرفة الناس وعلمهم – توفير الكتاب لهم بسعر مناسب أو تمكينهم من استعارته بيسر وسهولة للانتفاع به فسيظل الكتاب – على الرغم من كثرة قنوات التثقيف – الوسيلة الأهم، حيث يمكن للقارئ أن يختاره، كما يمكن التثقيف به في مساقات ومناهج مترابطة، والتعامل معه لا يحتاج إلى وساطة تقنية...
ومهما كانت إمكانات الحكومات ضخمة، فإنّها ستظل دون مستوى الوفاء بمتطلبات الناس من وسائل المعرفة، ومن ثمّ فإنّه لابدّ من أن تساهم الهيئات المختلفة في تأسيس المكتبات، مثل النوادي والنقابات والاتحادات والغرف التجارية والصناعية ومجالس الأسر ومجالس الأحياء والبلديات والشركات والمؤسسات والمصانع والموانئ، ولابدّ من تعميم المكتبات في المساجد وتطويرها بما يُلبي الحاجات المعرفية الجديدة.
ويمكن أن تُوضع بعض النظم التي تُلزم بعض الجهات التي ذكرنا بإنشاء مكتبات فيها ذات أحجام تتناسب معها؛ ليجد المواطن نفسه محاطاً بالكتاب أينما ذهب.
وقد اتبعت هذه الطريقة في (رومانيا) حيث أمكن توفير شبكة ضخمة من المكتبات الأهلية والحكومية، كانت تمتلك في نهاية عام 1973 رصيداً من الكتب يبلغ نحواً من (124) مليون كتاب، يستفيد منها نحو من ثمانية ملايين قارئ.
لابدّ من أجل تحقيق مشروع تعميم الكتاب من تشكيل مجلس وطني لإقامة المكتبات ودعمها وتطويرها. وإني أعتقد أن كثيراً من الناس مستعد لوقف مكتبة على طلاب العلم أو الوصية بها بعد موته، لو توفرت لهم النوعية الكافية وبعض الضمانات باستمرارها على شرط الواقف.
وقد قام بعض الموسرين بعمل مشكور؛ إذ خصصوا مباني ملحقة ببيوتهم، ووضعوا فيها كتباً، وهيئوا قاعات للمطالعة من أجل خدمة طلاب العلم!.
وفي أيامنا هذه صار كثير من الكتب يحوي معلومات سهلة الهضم، وهي أقرب ما تكون إلى معلومات الجرائد والمجلات، حيث لا يعود إليها القارئ مرة أخرى؛ فيمكن إهداء هذه الكتب إلى المكتبات العامة؛ ليطلع عليها من لم يقرأها من الناس.
تأجير الكتاب بسعر رمزي وسيلة مساعدة على الاطلاع. ويمكن للجامعات والمدارس أن تتبنى مثل هذا العمل.
وأنا على يقين أننا حين نضع تثقيف الناس ضمن أولوياتنا فسوف نجد أساليب عديدة لتحقيق ذلك.
3- الجامعات المفتوحة والدارات (التلفازية):
حين نرى أن رفع السويّة المعرفية للناس ضرورة حيوية، فإننا حينئذ سنلجأ إلى كل الوسائل المتاحة. ومن أهم الوسائل التي يمكن أن تدفع الناس دفعاً إلى التعلم (الجامعات المفتوحة) والدراسة بالمراسلة، وفتح أبواب الأنتساب في الجامعات على مصراعيها لكل من يرغب في تحسين مستواه العلمي واكتساب مهارات جديدة، وكذلك استخدام الدارات التلفازية المغلقة والمفتوحة وشبكات الحاسب الآلي...
كل ذلك وسائل فعالة في التعليم. ويجب أن يُوجَّه كثير من هذه الأنشطة إلى الريف والمناطق النائية. ويمكن مع شيء من التنسيق والتنظيم أن تكون كل هذه الأطر مكمِّلة لما هو موجود في التعليم الجامعي.
إنّ ربط الترقيات في الوظائف بالحصول على شهادات معينة، أو بحضور دورات وبرامج تثقيفية سوف يدفع الناس إلى التعليم في الجامعات وغيرها.
لابدّ من نشر ثقافة التعلم المستمر بين الناس، وتوفير الأطر والمراكز التي تؤمن لهم ذلك؛ حتى يستطيع الواحد منهم الاستمرار في الترقي الإنساني والمهني والتربوي.
4- تقريب المعرفة سبيل الوحدة الثقافية في المجتمع:
المستوى المعرفي للناس في العالم الإسلامي يميل إلى الانخفاض؛ فقلَّة قليلة أولئك الذين يقرؤون كتاباً كل شهر، وأقل منهم الذين يقرؤون كتاباً كل أسبوع. والسواد الأعظم لا يقرؤون أصلاً، أو يقرؤون بشكل منقطع، وغير منظم. هذه الوضعية هي البوابة الرئيسية للتمزق الاجتماعي؛ حيث يكون من العسير تعميم المفاهيم الإسلامية والاجتماعية والحضارية عامة على أبناء المجتمع الواحد.
كثيراً ما نعتب على المفكرين؛ لأنّهم لا يكتبون بلغة سهلة؛ حتى ينتفع بكتابتهم أكبر عدد ممكن من الناس؛ لكن ذلك في الحقيقة عمق شاق جدّاً، وقد يكون غير صحيح؛ فالأفكار المعقدة الراقية يصعب التعبير عنها بلغة سهلة مبسطة، وحين يتم ذلك، فإنّه إن لم يؤدِّ إلى تشويهها، فإنّه يحرمنا من طاقاتها الموحية....
ومن هنا فإنّ الحل الأمثل يتمثل في سياسات تقريب المعرفة، وإيجاد مؤسسات وأطر وبرامج نشر متخصصة في ذلك، حيث إن بإمكان كاتب قصة أو مسرحية أن يستخدم لغة سهلة قريبة في التعبير عن الحقائق العلمية والأفكار والمفاهيم الشرعية والإنسانية.
وطرح سلاسل من الكتيبات في الأسواق، مهمتها توفير المعلومات حول القضايا المختلفة سيكون عملاً جليلاً، ولا سيما إذا تحملت الدولة أو بعض الجهات بعض نفقات تكلفتها! ومع أن لدينا جهوداً طيبة في بعض البلدان في هذا المجال إلا أنها ما تزال دون المستوى المطلوب.
إنّ بإمكان الجامعات أن تقدِّم خدمات جليلة للعلم إذا جعلت من جملة أنشطتها في خدمة المجتمع إصدار بعض الكتيبات في التخصصات التي تدرِّسها من أجل تعريف الناشئة وذوي الثقافة المتواضعة من الكبار بها، وذلك بأسلوب سهل وجذّاب. ويمكن لبعض تلك الكتيبات أن يقتصر على الأسس وبعض الحقائق والمعلومات، على حين يمكن أن تشتمل كتيبات أخرى على الجديد في كل تخصص. وهذه الأعمال لا تكلف الكثير، بل يمكن للجامعات أن تجني بعض الأرباح من ورائها، لكن الذي نحتاجه دائماً هو الوعي والاهتمام!.
يمكن بصورة مماثلة للمكتبات التجارية الكبرى والنوادي والنقابات والمصانع.. أن تسهم في إشاعة المعرفة السهلة من خلال إصدار النشرات والكتيبات وإقامة المسابقات وتقديم الحوافز المختلفة.
إنّ التقدم الحضاري والتماسك الاجتماعي مرهون بسيادة مفاهيم اجتماعية محددة، وبوصول رسالة المجتمع إلى جميع أفراده. ولن يتم ذلك إلا من خلال حركة ثقافية موّارة، تلبي حاجات الأفراد المعرفية بالأسلوب الي يناسبهم.
لنجعل القراءة عادة لكل مسلم:
أوّل كلمة في الرسالة الخاتمة كلمة (اقرأ)، وما ذاك إلا لأنّ القراءة هي مفتاح التعلم والدرجة الأولى في الرقي الفكري والشعوري... الاهتمام بالكتاب والوله به واحترامه والحرص عليه عادات تتكوّن لدى الطفل في المنزل – غالباً – فالطفل الذي في منزل والديه مكتبة يفتح عينيه على الكتاب، والحديث عنه، ويجد نفسه محاصراً الكتب حيثما تجوَّل في البيت. كل كتاب جديد يثير موجة من القراءة والتلخيص والنقاش والنقد؛ إنّه ضيف مثير وطريف!
ولذا فإنّ الخطوة الأولى على طريق إشاعة القراءة هي انتشار مكتبة (المنزل).
وإن مما يسهِّل ذلك تخصيص ميزانية شهرية لتزويد مكتبة المنزل بالجديد النافع من الكتب. إننا ننفق على الأطعمة والأشياء الاستهلاكية الكثير من المال، فماذا لو خصصنا 2% شهرياً من جملة مصاريفنا لهذا الغرض النبيل؟
إنّ المعرفة هي التي تجعل الميل للاستهلاك ضعيفاً، والجهل هو الذي يولد الفراغ، الذي يحاول الناس ملأه عن طريق اقتناء الأشياء وإنفاق مزيد من المال في شراء ما لا يحتاجونه!
يمكن للمدارس والجامعات والمراكز الثقافية والمصانع والنوادي... أن تنمي عادة القراءة من خلال المسابقات العلمية وحلقات الحوار حول الكتب الجديدة، وتقديم عرض عنها من مؤلفيها أو غيرهم، ومن خلال الدعوة إلى تلخيصها وتقديم دراسات حولها...
حين نعتقد أن ما نكتسبه من المعرفة هو أهم ما نرثه من الذكاء والإمكانات العقلية من آبائنا فإننا سوف نبادر آنذاك إلى القراءة وتوفير الأجواء والظروف التي تشجع عليها.
إنّ الأُمّة ستظل تعيش على هامش التقدم العلمي ما لم تحاول إكساب أبنائها عادة القراءة وحب الكتاب واصطحابه في كل مكان!.►
المصدر: كتاب مدخل إلى التنمية المتكاملة/ رؤية إسلامية
ارسال التعليق