خليل الموسوي
◄يقول تعالى:(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...) (التوبة/ 109).
ويقول – تعالى – أيضاً:
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197).
ويقول الإمام علي (ع): "التقوى رئيس الأخلاق".
قد تسأل: ماهي علاقة التقوى بالتعامل مع الناس؟.
وقبل الإجابة على السؤال من المهم تعريف التقوى. إنّ التقوى: هي حالة الخوف، والرهبة، والخشية من الله العزيز القهار، وهي الحالة الباعثة على اجتناب الآثام والأخطاء.
- التعامل على أساس التقوى:
إذا عرفنا التقوى هكذا، وتصورنا إنساناً لا يحمل نسبة من هذه الحالة من الخوف، والرهبة، والخشية من الله، فماذا نتوقع منه غير الانحراف الاجتماعي، والإجرام، وسوء المعاملة مع الناس، وبعبارة أخرى: فعل أي شيء دون حياء، ودون مراعاة للعقل، والشرع، والحق، والضمير؟
وهذا التعريف يقودنا إلى التذكير بهذه النقطة الأساسية، وهي:
إنّ خوف الإنسان يجب أن يكون من الله وحده، لأنّه الخالق المصور، والعزيز الجبّار، لا من البشر، وإن احترامه للقوانين الإلهية يجب أن لا يكون نابعاً من خوفه من ذات القوانين، أو من القائمين على تنفيذها، بل يجب أن يكون نابعاً من امتثاله لله من جهة، وخوفه منه، من جهة أخرى. إن هناك قسماً من الناس يلتزم بالقوانين الإلهية، خوفاً من الأمور التي قد تصيبم في الحياة الدنيا نتيجة مخالفتها، وهذا في حد ذاته أمر حسن. ولكن الخوف الحقيقي يجب أن يكون من الله تعالى وحده، سواء فيما يرتبط بالدنيا، أو فيما يرتبط بالآخرة.
يقول الإمام علي (ع):
"إلهي! ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
وصحيح أن إيماناً بوجود النار في يوم القيامة، والعذاب الشديد فيها يدعونا إلى عدم مخالفة القوانين الإلهية لكي نتجنب النار، وصحيح أيضاً أن إيماننا بوجود الجنة، وما فيها من نعيم مقيم يدعونا أيضاً إلى عدم مخالفة تلك القوانين للفوز بالجنة، إلا أنّ إيماننا يجب أن ينطلق من أهلية الله للعبادة، مصلحة لنا على كل حال.
يقول الإمام علي (ع):
"إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار".
فهلا عبدنا الله شكراً؟
وتقوى الله لا تنحصر في مجال العبادات، بل هي، زاد، وشحنات من الوقود الروحي، والمراقبة للذات، وأساس تقوم عليه كل العبادات، والمعاملات، والعقود، وكل ممارسات الإنسان – في هذه الحياة – بشتى صورها، وأشكالها.
ومن ممارسات الإنسان في الحياة، أنّه يختلط مع بني جنسه، وتنشأ بينه وبينهم أضراب من المعاملات، كالمعاملات الاقتصادية، والاجتماعية الأخوية، ولكي يصون هذه الممارسات، والعلاقات الاجتماعية من الانحراف، فإنّه بحاجة إلى حالة التقوى.
يقول الإمام علي (ع):
"التقوى مفتاح الصلاح".
من جهة أخرى إنّ التقوى هي رأس الحكمة.
يقول الإمام زين العابدين (ع): "رأس الحكمة مخافة الله".
والرأس من الشيء أعلاه، أو مقدمته وأوّله. فعلى هذا تكون التقوى المدخل، والمقدمة للحكمة، وأعلى مراتب الحكمة في نفس الوقت.
وعليه فإن حالة التقوى في الإنسان، هي التي تجعله يلتزم بجوانب الخير، وتقويها فيه، وهي التي تجعله يجتنب جوانب الشر، وتبعده عنها، وهي الحالة التي تجعله يراعي القيم في تعامله مع الآخرين، فيحترمهم، ويقدرهم، ويتعاون معهم، ولا يظلمهم، ولا يغتابهم، ولا ينم لهم ولا عليهم، ولا يؤذيهم بلسانه، ويده، ولا يحسدهم، ولا يتكبر عليهم، ولا يحقد عليهم، ولا يخونهم، ولا يسلمهم في النكبات. وهي الحالة التي تجعل الإنسان يحب إخوانه، ويداريهم، ويصدقهم، ويواسيهم، وتجعله رقيباً على نفسه في الالتزام بالفضائل والأخلاقيات الحسنة، والابتعاد عن الرذائل، والموبقات. وبكلمة: إنّ التقوى، علاوة على أنها أساس كل بنيان خير، وكل معاملة حسنة، هي قائدة كل خلق حسن، وجنّة واقية من كل رذيلة. ومتى ما استيقظت، ونمت في الإنسان، انتظمت أمور دنياه، وآخرته.
يذكر التاريخ أنّ رجلاً دخل على بيت ليسرقه، وبينما هو كذلك إذا به يسمع تالياً للقرآن، يقول: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...) (الحديد/ 16).
فما أن سمع هذه الآية، حتى استيقظت حالة التقوى في نفسه، وجرت آثارها في لحمه، ودمه، وشرايينه، وأحس بقشعريرة في جلده، فقفل راجعاً منكسراً، نادماً على ما فعل. ثمّ تاب إلى الله توبة نصوحاً، وأصبح من الزاهدين العباد. وبذلك أصبحت حالة التقوى، والخوف من الله، والخشوع له، رادعاً له من ارتكاب الجريمة، وحاثاً له على الالتزام بالفضيلة.
ولنضرب على ضرورة التقوى في التعامل مع الآخرين بعض الأمثلة:
1- شخص يدخل معك في معاملة اجتماعية، وفي أثناء المعاملة يحصل بينك وبينه سوء تفاهم، كاختلاف على فكرة معينة، أو ما شابه ذلك. إن من المحتمل أن ذلك الاختلاف يولد نوعاً من الحقد في نفسك على ذلك الشخص، خاصة إذا كانت المسألة ترتبط بذاتك وكبريائك. ولكن حالة التقوى تحثك على الوقاية من تسلل الحقد إلى نفسك، وإذا تسلل إليها، فإن حالة التقوى تدعوك إلى تحطيم ذلك الحقد، وفتح صفحة جديدة.
يقول الإمام علي (ع):
"أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما".
2- يحدث أن تزور دكتوراً للأسنان مثلاً، من أجل معالجة أسنانك، فيقوم الدكتور بمعالجتك، وبعد الانتهاء تغادر العيادة دون أن تسلم للدكتور تكاليف المعالجة، نسياناً منك. وحالة التقوى – وبناء على أنّ الحق يجب أن يعطى لأهله – هي التي تدعوك لأداء الدين عليك، فتأتي إلى عيادة الدكتور، وتسلمه حقه بكل أمانة.
3- تسير في الشارع، فيحدث أن يسقط على الأرض شيء لإنسان ما، سواء كان هذا الشيء زهيداً، أو ثميناً، وحالة التقوى تجعلك تسلم هذا الشيء لصاحبه.
وهكذا قس على ذلك المعاملات الأخرى، الكبيرة منها، والجزئية، هي بحاجة إلى التزام تقوى الله، والخوف منه، ومتى ما اتقى الإنسان، ربه بوركت أعماله، وازداد الإنعام عليه، ولذلك يقول القرآن الكريم:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ...) (الأعراف/ 96).
ويقول الإمام علي (ع):
"إنّ تقوى الله عمارة الدين، وعمارة اليقين، وإنها لمفتاح صلاح، ومصباح نجاح".
"من أشعر قلبه التقوى فاز عمله".
"الجأوا إلى التقوى فإنّه جنة منيعة، من لجأ إليها حصنته، ومن اعتصم بها عصمته".
"التقوى: أن يتقي المرء كل ما يؤثمه".
فلكي تضمن الحكمة في تعاملك مع الناس، عليك بتقوى الله في السر والعلن، وفي الخلوة ومع الناس، واعلم أن في التزام التقوى انتظام أمور الإنسان في هذه الحياة، والفوز بالدار الآخرة.►
المصدر: كتاب كيف تتعامل مع الناس؟
ارسال التعليق