مقدمة:
يحتل الاتصال والمعرفة التي يتيحها مكانة محورية في تقدم البشر في مختلف مناحي حياتهم. وذلك أن تقنيات الاتصال تتيح للناس في كل أنحاء العالم إمكانات جديدة وفرصاً للارتقاء في في سلم التنمية. ويطلق على تقنيات الاتصال الحديثة اسم Mass me dia أي وسائل الاتصال الجماهيرية لأنّها تتجه إلى أعداد كبيرة من الناس، وفيها الإذاعة والتلفزيون والسينما والتسجيلات الصوتية والمواد المطبوعة كالصحف والمجلات والكتب والإعلانات. يضاف إليها مؤخراً شبكة الإنترنت وما يتبعها من مواد وبرامج. ويمكن حساب الهاتف النقال أو الجوال في تطوراته الجديدة المتجددة، ضمن هذه الوسائل. وفي جميع هذه الوسائل، تجري عملية أصبحت تشكل علماً قائماً بذاته هو علم الاتصال Communication. وهذه العملية تقوم على أربعة عناصر، هي: المرسِل – الرسالة – أداة الاتصال – المستقبِل. والتربية التي نمارسها في مجالاتها المختلفة، وبأشكالها المباشرة وغير المباشرة، يمكن أن تعد أحد أشكال الاتصال، فهي تضم نفس العناصر: المرسل، هو المعلم أو المربي؛ الرسالة، التي تتمثل في خطط التعليم ومناهجه؛ أداة الاتصال، وهي تقنيات التعليم وطرائفه؛ المستقبِل، وهو التلميذ أو المتربي بصورة عامة. لن أعمد في هذا البحث السريع إلى التوقف عند كل من هذه العناصر، ولكني سأتناول التغير الذي أحدثته وسائل الاتصال الجماهيرية في البيئة التي نعيش فيها، وفينا كأفراد يعيشون في هذه البيئة الجيدة المتغيرة، وما يتوجب على التربية أن تعمله لتواجه هذا التغير وتواكبه، وما يمكن لوسائل الاتصال أن تفيده من علوم التربية. - أوّلاً: البيئة الجديدة: حين يخطر لنا أن نلاحظ أنفسنا من هذه الزاوية، نرى أننا غارقون من الصباح حتى المساء في بيئة وسائل الاتصال التي تتكون من الإعلانات وبرامج الإذاعة والتسجيلات الصوتية والصحف.. وحتى الإنترنت. فما إن يستيقظ أحدنا من النوم حتى يضغط على زر الراديو أو التلفزيون ليسمع الأخبار، أو يبدأ النهار بأغنية أو موسيقا محببة. وحين يجلس بعضنا إلى مائدة الفطور يمسك بصحيفة الصباح ليطلع على آخر الأخبار الداخلية والخارجية، ويطالع أحد الموضوعات التي تهمه. ويقال الشيء نفسه عن ربة المنزل التي ترفق عملها اليومي بالاستماع إلى الإذاعة أو إلى تسجيل صوتي، وعن سائق التاكسي الذي يحارب الضجر بالاستماع إلى برامج تختلف من سائق إلى آخر. ذلك أن وسائل الاتصال أصبحت تشكل – كما يقول العالم الكندي مارشال ماك لوهان "امتدادات أو استطالات لحواسنا، فهي تتيح لنا أن نسمع ونرى ونتكلم ونشعر أبعد من ذي قبل، وبطريقة تختلف عن ذي قبل". لذلك يجب أن نحاول فهم هذه البيئة الجديدة. إنّ لهذه البيئة جوانب ذات أهمية خاصة لموضوعنا، وهي: - ازدياد المعلومات - وسيطرة الصورة - وسيطرة الخيال أ- ازدياد المعلومات: إنّ الخاصة الأولى للبيئة التي أوجدتها وسائل الاتصال هي تضخم المعلومات التي تضعها هذه الوسائل تحت تصرف أكبر عدد ممكن من الأفراد. وبالرغم من أننا اعتدنا بعض الشيء على هذه الظاهرة، فإننا ما نزال نقف أمامها بدهشة. إنّ موقفنا يشبه موقف الشخص الذي تساءل قائلاً: "أليس من السحر أن ينقل الإنسان إلى قمة جبل أعلى من كل ما شاهده في حياته العادية، وأن تتاح له الفرصة ليرى ما وراء الأفق؟ أليس من السحر أن تتاح الفرصة للإنسان ليرى خارطة من الجو لكل الكرة الأرضية بأدق ما فيها من تفاصيل؟ وأقصد بها الخارطة من الجو التي تقدمها Google للأرض. هذا الانفتاح الواسع على العالم، وهذا الازدياد في كمية المعلومات التي تنتشر بين الناس، يترك آثاراً هامة دون شك في تكوين الصغار والكبار. ب- سيطرة الصور: أما الخاصية الثانية لوسائل الاتصال الجماهيرية الحديثة فهي المكانة الكبيرة التي تحتلها الصورة بمختلف أشكالها. لقد أطلق البعض على الحضارة الحديثة اسم "حضارة الصورة" ولا يحتاج المرء لشروح كثيرة لتبرير هذه التسمية. يكفي أن نذكر الإعلانات التي نراها في الشوارع والمحلات التجارية وعلى صفحات الجرائد والمجلات، وعلى شاشات السينما والتلفزيون. بصورة يبدو لنا معها أننا لا نعرف الأشياء والناس والأحداث إلا من خلال الصور. وكم من الأولاد يتعلم الآن ما هو الفرس والخروف والثلج والبحر عن طريق التلفزيون قبل أن يروها في الواقع. على أن للصور مشكلة، تتمثل في أن معظم الناس يتوقعون منها أن تكون صورة طبق الأصل عن الحقيقة الواقعية. ولكن هذه الفكرة ليست صحيحة كل الصحة. وقد تخدعنا الصورة كما يخدعنا السرد القصصي والتقرير الصحفي. فالمصدر مثلاً، يستطيع أن يستخدم صوراً حقيقية عن مظاهرة ما لتقديم فكرة خاطئة عنها، عن طريق انتقاء بعض الصور ووضعها في إطار معين، وبذلك يوحي للمتفرجين بأنّ المظاهرة ضخمة مع أنها قد تكون صغيرة. لذلك أن غرض المصدر ذاتي، وهو يلتقط جانباً من الواقع ويعزله ليحقق غرضه. كما أنّ الصورة تفسر بطريقة ذاتية تختلف من شخص إلى آخر. هذا ولا يمكننا أن نعزو للصوت نفس الدور في تشكيل البيئة الجديدة بالرغم من استخدامه بكثافة في هذه الوسائل. جـ- سيطرة الخيال: إنّ الخاصية الأخيرة التي تميز عالمنا هي ازدياد الدور الذي يؤديه فيه الخيال. فالجانب الأكبر مما تقدمه السينما يتمثل في القصص واصطناع المواقف. ويقدم التلفزيون إلى جانب المعلومات المتنوعة (السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والفنية والعلمية والرياضية) عدداً كبيراً من البرامج القائمة على الرواية (كالأفلام، والمسلسلات الهزلية والجادة) والتي تنقلنا إلى عالم الخيال. وهناك الروايات المصورة التي تنتشر على نطاق واسع، والقصص التي تدور حول حياة النجوم والأبطال والمشاهير. وبالرغم من كون هذه الشخصيات واقعية، إلا أن عرض سيرها يتخذ شكل الخيال والأساطير. إنّ عالم الخيال يكتسب مكانة متعاظمة لدرجة يصبح معها أكثر واقعية من عالم حياتنا اليومية. فالكثير من معاصرينا يقضون مع القصص التي نقدمها إليهم عدداً أكبر من الساعات التي يقضونها مع قصتهم الخاصة. ثانياً: المتربي في البيئة الجديدة: يهتم المربون عادة بالمؤثرات التي يمكن أن تصل إلى الأطفال خشية أن تكون متناقضة مع التربية التي يقدمونها إليهم. وتقفز وسائل الاتصال حالياً إلى المقام الأوّل، وفي مقدمتها التلفزيون. هناك متشائمون يرددون اتهامات متداخلة بشأن التلفزيون كانخفاض الكم والكيف في العمل المدرسي، وضعف الصلاة الاجتماعية، والأثر الضار للمشاهد العنيفة – إلخ. على أنّ الدراسات تشير إلى أن أثر هذه الوسائل يتوقف على الشروط النفسية والفكرية والاجتماعية للشخص الذي يتلقى وسائلها. يقول شرام: من أجل أن نفهم تأثير التلفزيون في أطفالنا يجب بادئ ذي بدء، أن نعدل صيغة الوسائل الذي يقول: ماذا يعمل التلفزيون للصغار؟ ونصوغه على الشكل التالي: ماذا يعمل الصغار بالتلفزيون؟ ويمكن توسيع هذه الصيغة لتشمل جميع وسائل الاتصال كالكتب والمجلات والموسيقا والانترنت.. إلخ. إنّ كل طفل يستخدم هذه الوسائل بطريقته الخاصة، ويعمل منها شيئاً مختلفاً عما يعمله الآخرون. إنّ الناشئ يعمل بنفسه تلفزيونه الخاص، وصحافته الخاصة، وموسيقاه الخاصة حسب شخصيته وإمكاناته. وشخصية وإمكاناته تتوقف على تربيته المنزلية والمدرسية والاجتماعية. إلا أنّه من الضروري مع ذلك إثارة مشكلة تأثير وسائل الاتصال الجماهيرية لأنّه إذا كان من الصعب أن نصف التأثير المباشر لهذه الوسائل فإن ذلك يجب ألا يمنعنا من التفكير في تأثيرها على المدى البعيد. ويفترض البعض أن هذا التأثير يتمثل فيما يلي: أ- ظهور تدرج جديد للقدرات الإنسانية: إنّ الفرق العميق في البنيان بين الثقافة الإنسانية التقليدية التي تستند إلى منظومة منسجمة من المفاهيم الأساسية وأشكال التفكير والمحاكمة، وبين الفكر المعاصر الذي يمثل ثقافة مفككة كالفسيفساء تنتج عن تلاصق عناصر شتى؛ هذا الفرق يؤدي إلى قلب التدرج القديم للقدرات الإنسانية الذي يعطي العقل والمحاكمة المنطقية المكان الأوّل والمخيلة والحساسية المكان الثاني. ويحتمل أننا نشهد حالياً بداية تراجع العقل والمحاكمة لمصلحة الخيال والحساسية. والباحث الذي يلح بصورة خاصة على ظاهرة تغير ترتيب القدرات الذي تقود إليه وسائل الاتصال الحديثة هو مارشال ماك لوهان ونظراً لأهمية أبحاثه نقدم تلخيصاً سريعاً لها: إنّ المنطق الأساسي في تحليل هذا الباحث للظروف المعاصرة هو أن وسائل الاتصال عمّد الإنسان باستطالات أعضاء استقبال جديدة. وحين تتعدل أعضاء الاستقبال عند الإنسان تهتز علاقاته مع نفسه، ومع العالم، ومع الآخرين. يقول ماك لوهان: "أن يرى الإنسان، أو يدرك، أو يستخدم استطالات لنفسه تتخذ بصورة تكنولوجية، يعني أن يخضع الإنسان بالضرورة لهذه الاستطالات. أن يصغي الإنسان إلى الإذاعة، أو يقرأ صفحة مطبوعة يعني أن يفسح المجال لاستطالاته هذه بأن تنفذ على كيانه الشخصي، وأن يخضع للبنيان الجديد وينساق لتبدل الإدراك الذي يترتب عليه". "إنّ مجرد انتباه الإنسان لوسائل الاتصال يؤدي إلى التغير المشار إليه، فما يهم هنا ليس المضمون، أو المعلومات التي تقدمها الوسائل، بل الوسائل نفسها. فالوسائل ليست أوعية سلبية لمحتويات بالغة الأهمية، بل عمليات تحول اجتماعي نشطة. إنّ الوسيط ورسالته شيء واحد، لأنّه يحوّل المحتوى الذي يحمله، والإنسان الذي يستخدمه، والمجتمع الذي ينفذ إليه ويصبح جزءاً منه". وتقود هذه المقدمات ماك لوهان على عقد مقارنة بين عصر "يوحنا غونتبرغ" الذي سيطرت عليه الطباعة، وعصر وسائل الاتصال الالكترونية. إنّ عصر الأبجدية الذي أدى إلى اختراع الطباعة استبدل بالأسلوب الشفوي – السمعي لنقل المعلومات أسلوباً بصرياً، كما أقام عمليات التجديد بالاستناد إلى اختصاص العين، أي الكلمة المطبوعة. إن ذلك العصر هو عصر تتابع الأحداث، خطياً، في زمان ومكان متجانسين، عصر معرفة تستند إلى تفسير الأحداث بأسبابها. أمّا العصر الإلكتروني فهو، على العكس من ذلك، يتجه إلى جميع الحواس. فنحن الآن نسبح في الصور، والأصوات التي تأتي من جميع أنحاء العالم، يسوقنا إليها بيان إلكتروني يقصر الأبعاد ويجعل العالم قرية صغيرة. يمكننا في الواقع أن نتصور بأنّ العالمين يتعايشان ويتكاملان. فإلى جانب التقدم في علوم التنظير والتقنية، تزدهر اللاعقلانية ويتفتح الخيال كتعويض عن جفاف المجتمع التقني وقسوته. ب- اضمحلال الحدود بين الواقع والخيال: وهذه النتيجة تتبع ما قبلها. فالتداخل التدريجي بين الواقع والخيال يؤدي على المدى البعيد إلى زوال الحدود بينهما. ويمكن تفسير ذلك بأنّ البرنامج الإجمالي الذي يقدمه التلفزيون في سهرة ما، تتجاور فيه القصص الخيالية والتعليقات السياسية والمقابلات، وينتقل المرء فيه من أحدها إلى الأخر دون وجود رابط ما. والعامل الأهم هو أن كلاً من العالمين، عالم الخيال والواقع، يستعير من الآخر وسائله وتقنياته. إنّ الإنتاج الخيالي يعمل بصورة متزايدة على خلق جو من الحقيقة الواقعية، لذلك يستعير بعض الأساليب المتبعة في برامج الأنباء كالمقابلات، والتقاط المشاهد الحية وغيرها. ومن أمثلة ذلك المسرحية التي كتبها الشاعر سليمان العيسى بعنوان "المتنبي يعود إلى الأطفال". ففي هذه المسرحية يرجع شاعر القرن العاشر إلى العالم، ويسافر إلى حلب بالطائرة حيث يستقبله عشرات الألوف من الأطفال في المطار، ويجرون معه مقابلات.. وسير جميع الشعراء الذين يحتويهم كتابه: شعراؤنا يقدمون أنفسهم للأطفال تتضمن مزجاً لافتاً للنظر بين الواقع والخيال. وإذا كان إنتاج الخيال يتخذ الآن صورة الواقع، فإنّ العاملين في ميدان الواقع ويلبسون إنتاجهم ثوباً من الخيال؟. فمباريات كرة القدم، وانتخابات الرئاسة وغيرها من الأحداث الواقعي تعرض في الأنباء المصورة كما لو كانت روايات خيالية. - ثالثاً: التربية في عصر وسائل الاتصال الجماهيرية: ما الذي يترتب على المدرسة أن تفعله لتؤدي دورها في تكوين الناشئة ضمن معطيات هذه البيئة الجديدة؟ يجب أن نبيّن من البداية أنّ المدرسة ما يزال لها دورها، بل إن دور المدرسة لم يكن في يوم من الأيام أكثر أهمية مما هو عليه الآن. لقد أبرزت جميع الدراسات حول وسائل الاتصال الجماهيرية بصورة واضحة أهمية المدرسة في طريقة استقبال الناشئة للرسائل التي تقدمها وسائل الاتصال، وبينت أن هؤلاء الناشئة يدركون ما تقدمه لهم السينما والصحافة والإذاعة والتلفزيون مستخدمين الأدوات والوسائل النفسية والفكرية التي تزودهم بها المدرسة. ورداً على الاتهامات التي تنعت المعلمين بالجمود والقناعة بدورهم التقليدي، على هؤلاء أن يخرجوا من برجهم العاجي، وأن يذهبوا إلى السينما، ويشاهدوا التلفزيون، ويقرؤوا الصحف والمجلات ليعرفوا ما نقدمه، ويعملوا على تكييف مناهجهم وطرائقهم معها بصورة تكف معها وسائل الاتصال عن التشويش على عملهم وتصبح عوناً لهم على تحقيق أهدافهم. ومما يحتاج المعلمون إلى عمله: أ- إثارة الوعي عند التلاميذ وتنظيم معارفهم: ينبغي للمعلمين أن يقبلوا منافسة وسائل الاتصال هذه؛ وأن يحاولوا اكتشاف غني الصيغة الجديدة للخبر الثقافي عند الأطفال، وأن يتبنوا موقفاً إيجابياً إزاء المعلومات المتعددة المبعثرة التي تدعى "ثقافة الفسيفساء" فجوهر المشكلة لا يتمثل في معرفة ما إذا كانت الصيغة الجديدة للخير الثقافي أفضل أو أسوأ من الصيغة القديمة، بل في إعداد ذكاء الأفراد بصورة تمكنهم من التلاؤم معها. لذلك كان على المدرسة العمل على إيجاد التكامل في المعطيات التي تقدمها وسائل الاتصال وتنظيمها بصورة ديناميكية؛ بل ونقدها كلما كان ذلك ضرورياً لتمكينهم من تمييز البرامج الجيدة المناسبة من غير المناسبة. ب- زيادة الاعتماد على الخيال: على المدرسة أيضاً أن تأخذ بالحسبان ميدان الخيال الذي يحتل مكانة كبيرة في السينما والتلفزيون. وذلك بأن تقبل التجارب الخيالية كمغامرات السندباد أو عنترة أو عروة بين الورد في مناهجها؛ وأن تدرس الروايات الخيالية من زاوية نقدية، أي أن تعرّف التلاميذ بقواعد الرواية والأسس التي تستند إليها في جميع عناصرها. ويمكن أن ينظر إلى "تنسيق الروايات الخيالية" كهدف من أهداف تعليم اللغة والأدب في المدرسة يساعد على تعليم الأطفال الفكر النقدي الحر. جـ- تعليم التقنيات الجديدة المستخدمة في نشر المعلومات: إنّ الاتجاه الذي ذكرناه فيما سبق ضروري ولكنه ليس كافية، ويجب أن يكمل بتعليم التلاميذ استخدام تقنيات الاتصال الجديدة. لم يعد كافياً أن يشاهد المرء الأفلام السينمائية أو الإرسال التلفزيوني، أو يستمع إلى الإذاعة، أو يقرأ الصحف والمجلات ويناقشها وينقدها. فمن الضروري الآن أن يتعلم الأطفال أيضاً استخدام هذه الوسائل للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم. وتزداد إمكانية تحقيق هذا التعليم في إطار المدرسة لتوافر المواد اللازمة للتصوير، وإن لم يكن بصورة فردية، فعن طريق المدرسة ومختبراتها. إنّ الإمكانات التقنية المتوافرة تتيح الفرص للقيام بتجارب مبدعة في جميع الميادين الثقافية، على أن توضع جميع الوسائل السمعية – البصرية في متناول التلاميذ. وتعلم الأطفال تقنيات الصورة والصوت واستخدام الأجهزة يعني أن يسيطروا في المستقبل على هذه الوسائل وأن يجعلا فيها وسائل اتصال حقيقة؛ وأن يكونوا مؤرخين وصانعي قصص بدلاً من أن يكونوا مستهلكين لقصص معلبة. - رابعاً: ما الذي يمكن لوسائل الاتصال أن تفيده من علوم التربية: التربية والاتصال عمليتان يجمع بينهما قاسم مشترك هو الجهد الذي يبذله المرسِل لأحداث تغير في المستقبل أو المتلقي. لذلك كان من المفيد أن يستعين كل منهما بالأخر في الجوانب التي تقدم فيها، ونشط على نحو أتم وأكمل. وقد تحدثنا عما يجب أن تفيده التربية من الاتصال، ونود الآن معرفة ما الذي يمكن للاتصال أن يفيد من التربية. أ- تكوين فلسفة توجه العمل الإعلامي: بادئ ذي بدء، هناك قناعة واسعة لدى المربين بأن عملهم التربوي يجب أن ينطلق من فلسفة (معلنة أو مضمرة) تنبثق منها أهداف يسعون لتحقيقها. - وهذه الفلسفة تتضمن وجهة نظر حول المربي المرسل: هل هو ناقل للمعرفة؟ هل هو محفز للقدرات أم مشارك في نشاط؟ - ووجهة نظر حول التلميذ المتلقي: هل هو إناء فارغ يجب ملؤه بالمعلومات؟ أم قدراتٌ وإمكانات؟ هل هو كائن خيّر بالفطرة يفسده المجتمع يجب تربيته في الطبيعة، أم مجموعة غرائز شريرة يجب قمعها بوسائل رادعة؟ - ووجهة نظر في المعرفة، وأخرى في القيم.. إلخ. ب- مراعاة أوضاع المستقبلين للعمل الإعلامي: ويتطلب ذلك دراسة جمهور المستمعين أو المشاهدين من حيث العمر والوسط الاجتماعي والبيئة الجغرافية والوضع الصحي أو النفسي.. إلخ فمن المعروف أن لكل مرحلة عمرية خصائصها العقلية واهتماماتها، وينطبق الشيء نفسه على الظروف الأخرى للمتلقين. جـ- تنظيم العمل الإعلامي في مشروعات وبرامج: ينبغي أن يكون البرنامج الإعلامي مندرجاً في سلسلة طويلة تكوّن مشروعاً كبيراً لتحقيق هدف بعيد نسبياً، كمشروعات المحافظة على البيئة، أو التعريف بالحضارات، أو القارات.. إلخ. اذكر على سبيل المثال برنامجاً تابعته، يتكون من قرابة عشرين حلقة بعنوان: قال البحر، تحدث عما تحويه البحار، وما مرّت بها من أحداث، بشكل ممتع. ولابدّ من الإشارة إلى أنّه برنامج إذاعي من تقديم الـBBC سابقاً. كما أنّ هناك إمكانية لاستخدام المنهاج اللولبي أو الحلزوني الذي نادى به جيروم "برونر" ومفاده: أنك حين تعلم موضوعاً ما، تبدأ بعرض "حدسي" في تناول التلميذ، ومن ثمّ تدور إلى الخلف، إلى عرض أكثر شكلية وأشد تعقيداً. وبعد عدد من الالتفافات يتمكن الطالب من الموضع في قوته التوليدية كلها. هذا المفهوم ينبثق من نظرية للمعرفة تقول: "إنّ كل موضوع يمكن تعليمه إلى أي طفل، وفي أي عمر، بشكل أمين". ويعني ذلك أن أي مجال للمعرفة يمكن أن يبنى على مستويات متنوعة من التجريد والتعقيد، تتناسب مع أعمار التلاميذ ومستويات نموهم. وهذا يذكرنا بنظرية التكرارات الثقافة عند ابن خلدون. د- التنويع في طرائق العرض: وأهم ما يمكن لوسائل الاتصال إفادته من التربية، هو الاستعانة بطرائق التدريس. وفيها كما نعرف: الإلقاء بصيغة الرواية الكلي العلم على أن يتضمن شروحاً من عالم الطفل. وفيها أيضاً، الحوار، وطرح الأسئلة والتوقف للإجابة عنها، والقصة، والتشبيه، والتمثيل بأن يتناوب شخوص القصة الكلام، كل بحسب دوره. هذا فيما يتعلق بالبرامج السمعية، وأما فيما يتعلق بالبرامج المرئية، فهناك أيضاً التجارب العلمية والعملية، والوسائل المعينة بمختلف أشكالها والموجهة إلى السمع والبصر. ويحبذ دائماً تقديم تلخيص أو تذكير بالنقاط الرئيسة ولا سيما بالنسبة للأطفال الصغار. هـ- وضع المتلقي في جو النص الأدبي، شعراً كان أم نثراً قل تقديمه: هذه العملية تسمى عادة المتهيد أو المقدمة، وتستغرق فترة قصيرة، ومهمتها إثارة اهتمام المتلقي بموضوع النص عن طريق عرض صورة، أو سرد قصة، أو تقريبه إليه من حيث الشكل باستخدام المفردات الجديدة في سياقات مألوفة. وإذا كان الأمر يتعلق بنشيد، فمن الممكن عزف اللحن أوّلاً بصورة تحفز المتلقي على البدء بالإنشاد. و- تقويم البرامج: من المعروف أن وسائل الاتصال تسير في اتجاه واحد من المرسل إلى المتلقي، وذلك بسبب ضخامة الأدوات التي تستخدمها والتي تؤدي إلى تمركز الإنتاج، واتساع الشقة بين المرسلين والمستقبلين. صحيح أنّ المسؤولين يتلقون بصورة عامة ردود فعل من المستمعين أو المشاهدين تطلب منهم إعادة برامج ما، أو تنتقد برنامجاً آخر، وأن شباك التذاكر يشكل مقياساً لدى نجاح فيلم أو فشله؛ ولكن ذلك لا يكفي. فمن الضروري تنظيم استفتاءات أو توجيه استبيانات للمستقبلين لمعرفة آرائهم وانطباعاتهم بشأن نقاط محددة: الموضوع، اللغة، التصوير، الموسيقا والمؤثرات الصوتية، الإخراج.. إلخ. مما يساعد على التقويم بمعنيين: معرفة مدى نجاح كل جانب من جوانب البرنامج، ونقاط الضعف فيه؛ وتحسين العمل فيها جميعاً. وقد بدأ التقويم بالفعل في عدد من المؤسسات، ولكنه ما يزال بحاجة إلى التطوير باستمرار.*أديبة وأستاذة في علوم التربية (سورية)
المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 1524 لسنة 2007ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق