◄"العفو" كلمة يدل أصلُ معناها على المحو والطمس، يقال: "عفت الريحُ ألأثر إذا محته وطمسته، وعفا الشيء امتحى ولم يبق له أثر، العفو اصطلاحاً هو محوُ الذنوب، وكلّ من استحق عقوبةً فتركته فقد عفوتَ عنه.. ويقال: عفا الله عنك، أي محا الله عنك؛ فعفو الله هو محوه الذنوب عن العبد. وقيل إنّ العفو معناه الترك، فعفو الله إذاً هو تركه العقوبة على الذنب، وفي الدعاء المأثور: "أسألك العفو والعافية" أي أسألك ترك العقوبة وتحقيق السلامة، لأنّ العافية هي الصحة، وهي أن تسلم من الأسقام والبلايا.
و"العَفُوُّ": بضم الفاء وتشديد الواو، هو الكثير العفو، فالكلمة صيغة مبالغة على وزن فَعُول، وهي اسم من أسماء الله – عزّ وجلّ – التي تكرره ذكرُها في القرآن الكريم. و"المعافاة" مفاعلةٌ من العفو، بأن يعفو الإنسان عن الناس، ويعفو الناس عنه. وقيل هي أن يعافيك الله من الناس، ويعافيهم منك، أي يغنيك عنهم، ويغنيهم عنك، ويصرف أذاهم عنك، وأذاك عنهم.
وحقيقة العفو أن يُخطىء معك إنسان، وتكون قادراً على معاقبته ومؤاخذته، ولكنك تُعْرض وتصفح، ولذلك قيل: العفو عند المقدرة. وقيل: لا يظهر العفو إلّا مع الاقتدار. وقيل: ما قُرِنَ شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة.
والعفو خلق من أخلاق القرآن الكريم التي كرر ذكرها، ورفع قدرَها، ولعل ما يبيِّن هذا القدر الرفيع للعفو أنّ القرآن المجيد جعله صفةً من صفات الله – عزّ وجلّ – وأشار إلى ذلك في طائفة من الآيات، ففي سورة البقرة يقول الله:
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 52). وفيها أيضاً يقول: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) (البقرة/ 187). وفي سورة آل عمران: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 152). وفيها أيضاً: (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران/ 155). وفي سورة النساء: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) (النساء/ 99). وفي سورة التوبة: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً) (التوبة/ 66). وفيها أيضاً: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (التوبة/ 43). وفي سورة الشورى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى/ 30). وفيها: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى/ 25). وفيها: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى/ 34).. إلخ.
وهكذا نجد أنّ كتاب الله تبارك وتعالى قد نسب صفة "العفو" إلى رب العزة والجلال أكثر من عشر مرات، ونرى أنّ الله تعالى يعفو وفي الوقت نفسه يهدد بالمؤاخذة مَن يعود أو يُصِرّ، وهو يحث على الاتجاه إلى الأسباب التي تجعل الإنسان مستحقاً لعفو ربه. ونجد أكثر من هذا وهو أنّ القرآن الكريم يصف الله – عزّ وجلّ – بأنّه "العَفُوُّ" في مواطن، فيقول في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43). وفيها أيضاً: (وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 99)، وفيها كذلك: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء/ 149)، وفي سورة الحج: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (الحج/ 60). وفي سورة المجادلة: (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (المجادلة/ 2).
وما دام العفو صفةً من صفات الله التي تؤكدها آياتُ القرآن، فإنّه مما يزكِّي الإنسان، ويسمو بقدره عند الله وعند الناس أن يتخلق بهذا الخلق الكريم النبيل، ولذلك دعا القرآن إلى العفو وحث عليه، ونوَّه به في أساليب مختلفة، فنراه مثلاً في سورة البقرة يقول: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237)، فيذكِّر بأنّ العفو يكون معواناً على تحقيق التقوى عند الإنسان، وعلى تجنب الحيف والظلم.
ويقول في سورة الشورى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40).
فليس هناك مانع من مقابلة السيئة بجزائها، ومواجهة التطاول بمثله، ولكن العفو المؤدي إلى الإصلاح والخير أجملُ وأكمل، وثواب هذا العفو النبيل لا يضيع عند الله الذي يقول: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).
ويقول في سورة التغابن: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن/ 14).
ويقول في سورة النساء: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء/ 149).
وهذا تأكيد للحث على التجمل بالعفو، وتذكير بأنّ ثوابه إذا أحسن صاحبه التحلي به، ولم يخرج فيه عن مواطنه – لا يضيع عند الله عزّ وجلّ.
والقرآن الكريم يحرِّض الناس على الترقي في درجات الصفح والعفو والغفران والتسامح مع الناس فيقول في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-134)..
وكظم الغيظ هو كتم الغضب وعدمُ العمل بمقتضاه، والعفو هو ترك العقوبة، والإحسان هو التفضل بالخير.
ولقد روي أنّ ميمون بن مهران جاءته جارية له بطعام ساخن، فوقع إناء الطعام من يدها، فأصاب سيدَها شيء منه، فقال لها غاضباً: أحرقتِني. فأجابته: يا معلِّم الخير ومؤدب الناس، ارجع إلى ما قال الله تعالى. فقال: وما قال الله تعالى؟ قالت: لقد قال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ). فقال كظمتُ غيظي. قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ). قال: قد عفوت عنك قالت: زد فإنّ الله تعالى يقول: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). قال: أنتِ حرةٌ لوجه الله تعالى.
وإذا كان رسول الله الأعظم محمّد (ص) هو المثل الأعلى لكلّ مسلم، فإنّ أخلاقه كذلك هي القدوة السامية التي لا تشبهها قدوةٌ في مكارم الأخلاق وفضائل الشيم. ولقد سُئلت عائشة عن أخلاقه، فأجابت: كان خلقُه القرآن. والقرآن يطلب إلى الرسول الكريم أن يستمسك بخلق العفو، فيقول له في سورة آل عمران: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159). ويقول في سورة المائدة: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة/ 13). ويقول في سورة الأعراف: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199).
وإذا كان بعض المفسِّرين قد فسر قوله تعالى: (خذ العفو)، بقوله: اقبل السهلَ الميسور منهم، فإنّ كثيراً من المفسِّرين قد قالوا إنّ معنى ذلك هو تعاطي العفوِ عن الناس، أي اعف عمن يليق به العفوُ منهم.
ولقد ضرب رسول الله (ص) أروعَ المُثل في الحلم والصفح، حتى رووا أنّه كان أحلم الناس وأرغبَهم في العفو مع القدرة، ولقد جاء في سيرته العطرة أنّه كان يقسم للناس ذات يوم، فقال رجل من أهل البادية فيه فظاظة: يا محمّد، والله لئن أمرك الله أن تعدل، فما أراك تعدل، فأجاب النبيّ (ص): ويحك، فمَنْ يعدل عليك بعدي؟ وانصرف الرجل، فقال الرسول في عفو رائع: رُدُّوه عليَّ رويدا.
وقسم النبيّ ذات يوم قسمةً، فقال رجل، هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله. ولما سمع النبيّ ذلك قال: رحم الله أخي موسى، فقد أُوذي بأكثر من ذلك فصبَر.
وجاءه أعرابي يطلب منه شيئاً فأعطاه، ثمّ قال له: أأحسنتُ إليك يا أعرابي؟ قال: لا، ولا أجملت. فغضب المسلمون، وهموا بالرجل، فقال لهم النبيّ: كُفُّوا عنه. ثمّ دخل النبيّ بيته، ودعا بالأعرابي فأعطاه عطاءً آخر حتى رضي، ثمّ قال له النبيّ: أأحسنت إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً..
فقال له النبيّ: إنك قلتَ ما قلت وفي نفس أصحابي شيءٌ من ذلك، فإن أحببتَ فقل بين أيديهم ما قلتَ بين يديّ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. ففعل الرجل، وهنا قال النبيّ (ص) لأصحابه: إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فاتبعها النّاس (أي جروا وراءها) فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحب الناقة: خَلُّوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفقُ بها وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض (أي حشيشها) فردّها هَوْناً هونا، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها؛ وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النّار.
وفي تأريخ عفو الرسول موقف لا يُنسى ولا يبلى، فذلك يوم فتح الله عليه مكة، وانتصر على أعدائه الذين آذوه واضطهدوه وأخرجوه، فإنّه قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟. فأجابوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ولم يكتف القرآن الكريم بتعطير سيرة العفو فيه، ولا بطلبه من الرسول ليكون قدوة، بل طلبه أيضاً من العباد. فقال تعالى في سورة النور: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور/ 22).
هذا ولقد قال رسول الله (ص) في العفو: "ما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً". وتابع ابنُ عباس خطواتِ الرسول فقال: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عزاً".
إنّ العفو خلق من أخلاق القرآن، فليحرص عليه أبناء القرآن، ليستحقوا عفوَ الرحمن. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق