• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

البعد الإنساني للأتيكيت

البعد الإنساني للأتيكيت

ذات مرة نظرت إلى صورة طفل بابتسامة هادئة نُشرت في صفحة الشبكة الاجتماعية "الفيسبوك" فأعجبت بها، وكتبت تعليقاً عليها "أنّ الطفل لا يعرف المجاملة.. ابتسامته دائماً تكون جميلة". ووجدت فيها البعد الإنساني حاضراً، ومعروف أنّك تأخذ الصدق من الطفولة وتأخذ النصيحة من الكبار أو ربما تواجه عداوة منهم.

والأتيكيت لا يعني أن تتصنع بل أن تحترم الآخر بسلوك اجتماعي وبأداء ثقافي ممتع. لقد أصبحنا بالوقت الحاضر نفتقد كثيراً في مجتمعاتنا السلوك الإنساني وأدب اللياقة في حياتنا بإيقاعها اللاهث الضاغط فكلمات مثل: "لو سمحت، لو تكرمت، التمسك، شكراً، آسف، من فضلك وغيرها من هذه المفردات الذوقية اللطيفة"، تكاد تكون عملة نادرة، وأصبح الكثيرون ممن يواجهونها يومياً يشكون من افتقادها.

ويرى بعض المختصين بفن الأتيكيت لو حرصنا على استخدامها ستتبدل حياتنا كثيراً نحو الأفضل. وترى خبيرة الأتيكيت همت منصور أنّ البعض قد يرون في الحديث عن الأتيكيت نوعاً من أنواع الترف لكونه لفظاً أجنبياً، مع أنّه في الواقع لا يعني أكثر من الذوق واللياقة وحسن التصرف مع الآخرين. وقد ظهر كاحتياج للتوصل إلى قواعد تيسر تفاعل البشر مع بعضهم بعضاً، خاصة بعد اتساع رقعة الحضارة وتعدد أنماط التقدم والعمران. أنّ اللفظ الأجنبي ليس السبب الوحيد وراء ما يحمله البعض من توجس تجاه الأتيكيت وجهلهم به، والبعض من المختصين بفن الأتيكيت يحملون بعض الخبراء في هذا المجال جزءاً من المسؤولية. إذ أنّ خبراء تعليم الأتيكيت الذين يظهرون على شاشات التلفزيون كثيراً ما يتسمون بقدر بالغ من التكلف والتصنع مما يعطي فكرة سلبية للناس عن مفهوم الأتيكيت. كما يعطون فكرة معقدة ومتكلفة عنه، الأمر الذي يعقد الأمور ولا يسهلها. وهذا قطعاً غير صحيح، إذ ينبغي على الخبير التزام مظهر بسيط، بدلاً من النهج السائد حالياً. فهم يظهرون على الشاشات أشبه بعارضات وعارضي الأزياء، مما يخلق انطباعاً خاطئاً لدى المشاهد بأنّ هذا الأتيكيت أمر صعب المنال وليس من السهولة تطبيقه أو السير وفق أدبياته.

ومن بين المتهمين الآخرين ما آلت إليه سلوكيات التعامل بين الناس في ظل تراجع الفن، خصوصاً الأفلام التلفزيونية والسينمائية على حد سواء. فعلى حد قولها تقول منصور إنّ الفن القديم كان حريصاً على تعليم الناس. وهنالك جوانب وسلبيات أخرى خاصة بسلوكيات الإنسان وعلى سبيل المثال تقف المرأة بالوقت الحاضر في سيارة نقل الركاب في العواصم وعلامات التعب والإجهاد بادية على وجهها، ولا يدعوك أحد للجلوس مكانه، أو يوسع لك عند باب المصعد، ويقول لك تفضلي حضرتك، ولو من باب الأتيكيت والمجاملة. وقد يغيب الأتيكيت عند الكثير من الأفراد في مجتمعات ودول متقدمة وقد تجده عند أبسط الناس وفي مجتمعات بسيطة ومتواضعة من جميع النواحي الثقافية والاجتماعية وغيرها، فالأمر يختص بالسلوك وبأساسيات التنشئة الاجتماعية. وهو لا يعني لبس أفضل وأغلى الملابس ولا توفره أجمل وأفضل الأماكن بل هو أفضل سلوك قد يوجد في أبسط إنسان أو مجتمع. وتعد مصافحة الأيدي واحدة، مثلاً، من أوائل صور الأتيكيت، حيث كان المحاربون في العصور الوسطى يقصدون من مد أيديهم للمصافحة إلى إظهار أنّهم استبدلوا الأسلحة بأيدي السلام إعلاناً لترك الحرب واللجوء لخيار السلام، لكن بداية من القرن الخامس عشر حتى مطلع القرن العشرين، تعلّم الأطفال قواعد الأتيكيت في المدارس، وكانت أبرز النقاط التي أنصب عليها الاهتمام كيفية الانحناء على نحو مناسب أمام المعلمين، وأهمية التزام الصمت حين يوجه إليهم شخص الحديث. وبرغم حصول التباين لقواعد الأتيكيت من ثقافة لأخرى ومن عصر لآخر، إلّا أنّ هناك قواعد للأتيكيت تتفق حولها كلّ الثقافات وتتوارثها الأجيال.

والعادات الاجتماعية وأنماط السلوك لدى الشعوب هي سمة نموذجها الاجتماعي الموروث أو الذي يرتبط بمبادئ الدّين، فكان لدى بعض الناس وهي ثقافة اجتماعية بأنّ مَن يتثائب ويفتح فمه فإنّ الشيطان يدخل من خلاله إلى جوفه، وهي مسألة اعتاد الناس أن يسمعوها، ولكن هي بالأساس مرفوضة دينياً واجتماعياً ويحتاج أن يضع المتثاءب على فمه، وحتى المجتمعات الغربية في العصور الوسطى ساد بينها اعتقاد ديني بأنّ الإنسان عندما يفتح فمه ليتثاءب ينفذ الشيطان إلى روحه. ومثل كلّ فن، تطور الأتيكيت حالياً وتخلّص من الكثير من القواعد الجامدة التي سبق واتسم بها، وأصبح يدور في الجزء الأكبر منه حول مساعدة الناس على التعامل مع بعضهم البعض في يسر. ومن بين القواعد الصارمة التي تراجعت في العصر الحديث ضرورة خروج الرجل من السيارة ليفتح الباب لخطيبته أو زوجته كي تخرج منها.

إنّ البعد الإنساني للأتيكيت يحتاج أن يأخذ مداه الأوسع بين الناس والشعوب لكي يسير بالاتجاه الإنساني وتحقيق الوئام والانسجام بين أفراد الشعب أو الشعوب الأخرى بعيداً عن أي انحراف أو ميول نحو القضايا والثقافات الكمالية ذات البعد المادي الذي لا ننظر إليه سوى من زاوية الأناقة والابتسامة التي تمثل سلوكاً نظرياً وليس عملياً.

 

الكاتب: د. فاضل البدراني

المصدر: كتاب فن الأتيكيت في بناء العلاقات الاجتماعية والدبلوماسية

ارسال التعليق

Top