◄يعتبر مارتن سيلجمان (M.Seligman) أبرز العلماء الذين اهتمّوا بالجوانب الإيجابية والإبداعية في دراسة السلوك الإنساني في ثمانينيات القرن العشرين.
ويعزى إليه أنّه أطلق مصطلح علم النفس الإيجابي (Positive Psychology)، فزادت الدراسات التي تناولت الجوانب الإيجابية الإنسانية بعدما تغلبت على الدراسات التي تناولت الجوانب السلبية لمواضيع علم النفس. ومن أهم المصطلحات الحديثة في مجال علم النفس الإيجابي مصطلح الهناء النفسي (Subjective well-being).
تعود الجذور التاريخية للهناء الشخصي إلى العصر اليوناني، عندما أطلق أرسطو نظريته (Eudemonic)، أي نظرية (الحياة الطيبة) والأيدمونيا هي في أصلها اللغوي اليوناني (Demonia) وتعني الملاك الحارس أي وفرة النعمة.. فالهناء يرتبط بفضائل الحياة، والعطاء، والوجود ذي المعنى.
ويعتبر إدوارد داينر وآخرون أوّل مَن أطلق مصطلح الهناء النفسي في بحوث علم النفس، ويقصد به "تقدير الشخص وتقويمه لحياته الشخصية من الناحيتين المعرفية والوجدانية في اللحظة الحالية"، وهذا التقويم يشمل فترة طويلة من حياة الفرد، تعتمد على سنة كاملة، وتضمن ردود الأفعال العاطفية للشخص تجاه الأحداث، ومزاجه الشخصين ومدى رضاه عن حياته، وكذلك مدى رضاه عن مجالات جودة الحياة مثل العمل والزواج، ومن ثمّ يكون الهناء الشخصي مفهوماً شاملاً يتضمّن خبرة الانفعالات السارة، ومستوى منخفضاً من المزاج السلبي، ودرجة مرتفعة من الرِّضا عن الحياة.
مكوّنات الهناء الشخصي:
يرى العلماء أنّ مكونات الهناء النفسي يتم تقسيمها إلى مكونين أساسيين، هما:
- المكون المعرفي (Cognitive): هو رضا الشخص عن نفسه، وأسرته، ورفاقه، وصحّته، وأمواله، وعمله، ووقت فراغه.
- المكون الوجداني الإيجابي (Positive Affect): هو وجود خبرات أو مشاعر إيجابية سارة، مثل: السعادة، والابتهاج، والنشوة، والاعتداد بالنفس، والحب، والفرح، والقناعة. وغياب خبرات أو مشاعر سلبية غير سارة، مثل: الغضب، والحزن، والشعور بالذنب، والخزي، والقلق، والحسد وغيرها.
ويوصف الشخص الذي يتمتع بمستوى عالٍ من الهناء النفسي بأنّه راضٍ عن حياته وذو مشاعر إيجابية متكررة من السرور والفرح، ونادراً ما يواجه مشاعر سلبية كالاكتئاب والحزن والقلق.
ويتميز الهناء الشخصي كمتغير نفسي بخصائص أساسية، أهمّها:
1- ينظر إليه من وجهة نظر الشخص نفسه.
2- لا يهتم بالانفعالات والمزاج الوقتي فقط، بل يفحص دلائل الهناء الشخصي للفرد عبر فترات أطول من الزمن.
3- الهناء الشخصي يدرس أيضاً من خلال طيف واسع يمتد من اليأس إلى الابتهاج لكي يكتمل الرِّضا عن الحياة، وحيث إنّ تجنب البؤس ليس كافياً لتحقيق الهناء الشخصي، لابدّ أن يجرب الناس الرضا عن الحياة والانفعالات السارة ويخبرونها. لذا يعدّ الهناء الشخصي خبرة أساسية يمرون بها.
الدلائل على تمتع الفرد بالهناء الشخصي:
هناك عدد من الدلائل التي إذا توافرت، دلّت على أنّ الفرد يتمتع بالهناء النفسي، هي:
- الرِّضا عن الحياة (Satisfaction with life): ويعني مدى تقبل الشخص واقتناعه بحياته بوجه عام، اعتماداً على حكمه الشخصي، ويمكن أن نتعرَّف على الرِّضا لدى الأفراد عندما نسألهم عن جوانب مختلفة من حياتهم، فنسألهم مثلاً عن: العائلة، والزواج، والمعيشة، والعمل، والصداقة، والصحة، وتشير إجاباتهم إلى رضاهم عنها.
- حبّ الحياة (Love of live): هو اتجاه إيجابي لدى الشخص نحو حياته الخاصة، ويعكس شدّة تمسكه بالحياة والتعلق السار بها وتقديرها.
- التفاؤل (Optimism): يقصد به نظرة استبشار نحو المستقبل تجعل الشخص يتوقع الأفضل وينتظر حدوث الخير ويرنو إلى النجاح.
- الأمل (Hope): هو التفكير الموجَّه نحو الهدف، حيث يستطيع الفرد الذي يحصل على درجة مرتفعة في مقياس الأمل أن يدرك حدود قدرته لمواصلة السعي نحو هدف معيّن والسبل الكفيلة بذلك، مع فكرة مفادها أنّ هذا الهدف سوف يتحقق، ما يجعل الفرد يشعر بالرضا والارتياح.
وهناك نوعان للأمل، هما:
- الأمل العام: وهو الذي يمثل شعوراً عاماً لدى الفرد بالقدرة على النجاح والإنجاز.
- الأمل الخاص: وهو المتعلق بالنجاح في موضوع معيّن خاص بالفرد مثل الدراسة أو العمل.
4- السعادة (Happiness): هي التي يقدر فيها الشخص نوعية حياته الحالية تقديراً إيجابياً، وتشمل ثلاثة عناصر، هي: الرضا عن الحياة ومجالاتها المختلفة، الاستمتاع والشعور بالبهجة، الغياب النسبي للعناء بما يتضمّنه من قلق واكتئاب.
وأشارت نتائج عدد من الدراسات النفسية إلى الفوائد التي تعود على الأشخاص المتمتعين بمستوى عالٍ من الرضا الشخصي، فهم أكثر نجاحاً في مجالات الحياة المختلفة، وعلاقاتهم الاجتماعية أقوى من الذين هم في مستوى أقل من الهناء الشخصي. وتبيّن الدراسات كذلك أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى مرتفع من الهناء الشخصي غالباً ما يكونون متزوجين، ويحظون بعلاقات جيِّدة داخل العمل، ولديهم القدرة على التعامل مع الضغوط، وفرصتهم أكبر في الترقيات والراتب الوظيفي الأفضل، وهذه النوعية من الأفراد تستطيع التغلب على الظروف الضاغطة، بالإضافة إلى تميزها بمستوى منخفض من الأفكار والسلوكيات السلبية.
ويمكن القول إنّ ارتفاع مستوى الهناء الشخصي إحدى دلائل الصحّة النفسية والشخصية السويّة.
- تفسير العلماء لتمتع الشخص بالهناء الشخصي:
الاتجاه الأوّل: الاتجاه المعرفي (منحى المتعة)
يرى العلماء أصحاب هذا الاتجاه أنّ الذي يجعل الناس يشعرون بالهناء الشخصي هو إنجازاتهم ومواردهم الشخصية وتوقعاتهم بالتقدم. وأنّ الهناء الشخصي يعود إلى مصادر عدّة، منها: الدخل وعدد الأصدقاء والتدين والذكاء ودرجة الإنجاز التعليمي.
الاتجاه الثاني: تكامل الهناء الشخصي (منحنى السعادة)
اعتمد هذا الاتجاه في تفسيره للهناء الشخصي على تكامل عدد من خبراء علماء النفس مثل كارل روجرز وإبراهام ماسلوا وكارل يونج، الذين اتفقت نظرتهم في تحديد ستة أبعاد أساسية للهناء الشخصي، وتشمل: النظرة الإيجابية إلى الذات وماضيها، الإحساس بأنّ الحياة ذات هدف ومعنى، جودة العلاقات مع الآخرين، الفعّالية الذاتية في المجال الشخصي، القدرة على اتباع قناعات الفرد الذاتية، والإحساس بتقدير وتحقيق الذات.
الاتجاه الثالث: الهناء الوجودي
يشير هذا الاتجاه إلى تفسير الهناء الشخصي للفرد عبر فترة زمنية، حيث يتضمّن تقويم الفرد لجوانب النشاط العقلي تجاه خبرات الحياة الممتدة (سواء الماضي أو الحاضر أو المستقبل).
- بعض العوامل التي تؤثر في الهناء الشخصي:
1- الثروة: تشير نتائج البحوث النفسية إلى أنّ الثروة والدخل المرتفع يرتبطان بعديد من النتائج الإيجابية في الحياة، حيث يعتقد بعض الناس بأنّ الثروة تعطي للفرد الهناء الشخصي أكثر من أي عامل آخر.
2- الإيمان بالله: يعتبر الإيمان بالله عاملاً مهماً في تمتع الفرد بالهناء الشخصي، فكلما كانت علاقة الفرد بمعتقداته الدينية قوية كان لديه شعور بالرضا عن الحياة، مما ينعكس إيجابياً على هنائه الشخصي.
3- الصحّة الجسدية: هناك علاقة إيجابية بين الصحّة الجسدية والهناء الشخصي، حيث إنّ الاكتئاب مثلاً يؤثر في الصحّة الجسدية على المدى الطويل، في حين أنّ العواطف الإيجابية مثل التفاؤل يكون لها تأثير إيجابي على صحّة القلب والشرايين وعلى عمل جهاز المناعة.
4- القيم: تعرف القيم بأنّها "أهداف نسبية مرغوبة، متفاوتة في الأهمية"، وتكون بمنزلة مبادئ توجيهية في حياة الناس. وتعتبر القيم مؤثرة في رأي الفرد، وأحكامه وسلوكه، وتصرفاته. ومن هنا فالقيم التي يتبناها الفرد مؤثرة على حياته ورضاه عنها ومؤثرة أيضاً في سعادته، وبالتالي على هنائه الشخصي.
5- الترفيه: يرى علماء النفس أنّ الترفيه والتمتع بالحياة يفضيان إلى الهناء الشخصي للفرد، ويدعم ذلك من خلال الاستمتاع بأنشطة يرغبونها في أوقات فراغهم، مثل مشاهدة السينما والقراءة وغيرها من هواياتهم المفضلة.
- ثقافة المجتمع والهناء الشخصي:
تعتبر ثقافة المجتمع عاملاً مهماً في تحقيق الهناء الشخصي للفرد، فلكلّ مجتمع ثقافته الخاصّة التي تنعكس على الحالة النفسية العامّة لأفراده، فالمجتمعات التي تسودها روح التعاون والعمل الجماعي واحترام الآخر تنعكس إيجابياً على الهناء الشخصي للفرد، بعكس المجتمعات التي تسودها النزعة الفردية والأنانية والصراعات التي تنعكس سلباً على الهناء الشخصي للفرد. ►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 692 لسنة 2016م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق