• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإهداء.. علم وفن

الإهداء.. علم وفن

يتبادل الناس الهدايا في مختلف المناسبات، ولأسباب متنوعة كالتعبير عن المحبة والامتنان، والرغبة في تعزيز العلاقات وتوثيقها، والاحتفال، والاحتفاء بإنجازات وأحداث، وأشخاص. وقد وجد علماء الأنثروبولوجيا، وعلماء النفس أن تقديم الهدايا، وما ينتج عن فعل العطاء، جزء مهم من التكامل المجتمعي، والتواصل بين البشر، وتحقيق سلامة الأفراد.

وفي عالم الأعمال توزع الهدايا على العملاء الفعليين والمتوقعين؛ فتقدم بعض الجهات هدايا تحمل شعاراتها، ما بين الرمزية ذات الأثمان البسيطة، والمميزة غالية الثمن. ومثلما تتباين الهدايا، تتباين النوايا ما بين تعبير أصيل وصادق لما قدمه هؤلاء العملاء من دعم للبضائع أو الخدمات، مع استعداد لبذل المزيد من الجهد للتطوير، وتطلع لإضافة عملاء جدد، وبيع المزيد. وفي جميع الأحوال للإهداء أصول، ومبادئ وإستراتيجيات يجب وضعها في الحسبان، كما هي الحال بالنسبة لأي علم وفن. 

 في كتاب «علم الإهداء في جميع جوانب حياة الإنسان» للكاتب جون روهلين بدأ بعبارة ترى أن «العطاء مفتاح أساسي للنجاح».

وأكّد على قوة الإهداء المؤثرة، مدللًا على ذلك بدراسة أجريت بجامعة كورنيل، استخدمت فيها الحلوى لزيادة إكراميات مطعم. ووجدت أن الزبائن الذين حصلوا على قطعة صغيرة من الشوكولاتة مع الفاتورة، أعطوا إكراميات أكبر من غيرهم. وأن الاكراميات لم تتغير مع زيادة عدد قطع الحلوى فحسب، بل بطريقة التقديم. وخلصت الدراسة إلى أنه من المرجح أن تكون الرغبة في رد اللمسة الطيبة - الحلوى - قد ألهمت بإكراميات أكبر، على اعتبار أن الإهداء عملية ديناميكية، عادة ما يتمنى المتلقي فيها المشاركة في العطاء، بدافع قد لا يتصل بـ «هذا مقابل ذاك».

 

لا داعي للقلق

رأى روهلين أن هدف علم الإهداء عموماً، يجعل الشخص يشعر بأنّه مميز، ومقدر وقته، ومعترف بجميله، مثلما نفاجئ عزيزاً بهدية بين الحين والآخر، ومعها الكثير من الاهتمام والحرص والرغبة في تلبية حاجاته. ويمكن أن تكون اللمسات الصغيرة للمحافظة على العلاقات الصغيرة مؤثرة ومعززة للتقدير، ولا عجب أن يتذكر المتلقي الابتسامات، والكلمات البسيطة ويعتبرها شيئاً كبيراً وثميناً.

وبالنسبة للبعض، قد تكون فكرة تقديم الهدايا سببًا للشعور بالتوتر، لأنّ العثور على الهدية المثالية ليس سهلاً دائماً، بل يمكن أن يكون مرهقاً ومحبطاً، وبحاجة إلى بذل الكثير من الجهد والمال في رحلة الاختيار، وطريقة التقديم والتوصيل. لتأتي بعد ذلك مرحلة انتظار رد الفعل، مع وجود احتمال ألا تنال الهدية الرضا، ولا تحقق الهدف من ورائها. فالهدية الاستثنائية الثمينة - من وجهة نظر العاطي - قد لا تكون ملهمة ومفيدة بالنسبة لمتلقيها. أما ما يمكن أن يهدئ القلق - وفقًا لعلم الإهداء - حقيقة أن الهدايا كالبذور التي يقع معظمها على أرض خصبة. فغالبية الناس تحب الهدايا وتفرح بها، وقلة فقط التي لا يعجبها العجب.

 

أجمل الهدايا

من وجهة نظر روهلين، أجمل الهدايا وأكثرها وقعاً - وفقاً لعلم الإهداء - غير المتوقع منها. فعنصر المفاجأة، وطريقة التقديم يضيفان قيمة أكبر على الهدية. ومن أصول الإهداء، العمل من منطلق الاهتمام بالآخر- لا بالنفس - وهذا يعني ألا نهدي أشياء غير ملائمة، ولا أشياء عليها أسماؤنا وشعاراتنا الخاصة، بل اسم المتلقي أو شعاره. وأحلى ما يمكن إهداؤه، أشياء جميلة تستخدم مع الأصدقاء أو أفراد العائلة، لأنّ في ذلك فرصًا ملهمة لتذكر العاطي بالخير وبصورة طبيعية. ولا بد أن تترك الهدية التي تستخدم يوميًا انطباعًا جيدًا لفترة طويلة. فلا أحد يفضل الأشياء الرخيصة الفارغة من المعنى، وقد تكون جملة رقيقة مكتوبة بخط جميل أفضل من هدية رخيصة وعديمة الجدوى.

ويشجع المؤلف على محاولة تجاوز توقعات متلقي الهدية بصورة تنجح في زرع ثقته بمقدم الهدية. واعتبر بناء السمعة الطيبة يستحق عشرة اضعاف المال المنفق في العطاء. وقد يأتي بنتائج إيجابية على المدى البعيد كتوثيق العلاقات، وجذب أشخاص جدد يتوقون إلى معاملة متميزة. وينصح بهدايا عالية الجودة، تثير إعجاب المتلقي وتؤثر فيه. وقد يساعد البحث عن مجالات اهتمام المهدى إليه اختيار الهدية المناسبة.

 

امنحهم ما يحتاجون

بعيدًا عن عالم الأعمال، يشير عديد من الأوراق البحثية المنشورة بمجلة علم النفس التجريبي، إلى أن أفضل الهدايا هي تلك التي تأتي بناءً على طلب متلقيها. فقد وجد الباحثون أن العاطي عادة ما يفكر بشكل نمطي، ويعتقد أن المتلقي سينظر للهدايا التي يتلقاها - غير المرغوب فيها - على أنها مميزة ومختارة بعناية، ويقدرها كما ينبغي؛ بينما الحقيقة عكس ذلك. فالمتلقي يفضل الهدايا التي يطلبها صراحة، حتى لو كانت أقل ثمناً مما تلقى. ولا تكون المفاجأة عند فتح الهدية الثمينة - كساعة من علامة تجارية شهيرة - إلّا لعامل الدهشة، الذي لا يعني الفرح بالهدية بالضرورة. فوفقاً لدراسة نشرت في مجلة مهتمة بالاتجاهات المعاصرة في علم النفس يفضل معظم متلقي الهدايا الأشياء التي يمكن أن يستخدموها، بغض النظر عن قيمتها المادية. وحتى لو سعى من يهدي إلى تعظيم لحظة تقديم الهدية بجعلها مميزة برؤية الدهشة والابتسامة على وجه المتلقي، لا يهتم المتلقي سوى بالقيمة التي يمكن أن تضيفها الهدية إلى حياته لأطول فترة ممكنة.

ويقول الباحثون في دراسة أخرى نشرت منذ سنوات في مجلة تتناول شؤون المستهلك، إن متلقي الهدية يفضل الأشياء الأساسية العملية على كماليات الرفاهية. وأكدت دراسات تفضيل العديد من الناس الهدايا النقدية، أو بطاقات الشراء المدفوعة مقدماً - حتى مع شعورهم بالإحراج عند طلبها - وهدايا عيش الخبرات، كتذاكر حضور الحفلات، أو المشاركة في رحلات، أو دعوات المطاعم. أو رسوم تسجيل في دورة تدريبية. وفي جميع الأحوال، يقدر متلقي الهدية فكرة الإهداء. ويشعر العاطي بأنه أقرب للمتلقي، ويلازمه شعور طيب، حتى لو لم يتأثر المتلقي كثيرًا بالهدية.

 

ليس هدراً

للذين يرون أمر تبادل الهدايا هدراً، وغير عملي، ويكتفون بالاجتماع على وجبة، أو قهوة، والتعبير الشفوي عن المحبة، جاء عالم الأنثروبولوجيا برونسيلاف مالينوفسكي بدليل يثبت العكس. وذلك أثناء عمله الميداني في دولة بابوا غينيا الجديدة، الجزيرة القريبة من إندونيسيا. فقد حافظت هذه المجتمعات على تبادل احتفالي معقد يدور لهديا من قلائد وأساور صدفية يتم تبادلها بين الأفراد أولاً، ثم تسافر بين الجزر المجاورة في طقوس عرفت بتبادل «كولا». ولم تكن تلك الهدايا عملية، ولا ذات قيمة كبرى. ويعتبر بيعها ممنوعاً بحكم العادة، ونظراً للانتقال الدائم لقطع الهدايا هذه، نادراً ما يلبسها أصحابها المؤقتون. ورغم ذلك، يقطع الناس مسافات لتبادلها، ويتعرضون لأخطار المحيط الهادي، وينفقون الكثير من الوقت. ولكنه تبين أن ذلك أداة لتنمية التواصل الإنساني. فعلى المستوى الفردي لم تكن هذه الهدايا مجانية، لأنها تأتي مع توقع ردها في المستقبل. وعموماً، تلعب دوراً في خلق دائرة من تحمل المسؤولية المشترك الذي ينتج في شبكة من العلاقات المتبادلة التي تشكل المجتمع كله.

وإلى جانب ذلك، يجلب إنفاق المال على الآخرين سعادة أكبر من إنفاقها على الذات - وفقاً لمسح شمل أكثر من ستمئة مشارك من الأمريكيين - بغض النظر عن مستوى الدخل. وعندما منح طلاب جامعة بريتش كولومبيا ظروفاً بها نقود لكي ينفقوها على أنفسهم أو على شخص آخر في ساعات محددة، تبين أن من أهدوا الآخرين كانوا أكثر سعادة. ولا فرق بين من أنفق خمس دولارات أو عشرين دولاراً.

 

فوائد ومنافع

من ناحية أخرى، وجد علماء الأعصاب أن التبرع ينير منطقة الدماغ أكثر مما يفعل التلقي. ويستمر فرح العطاء لفترة أطول من فترة استمرار الشعور بمتعة الأخذ، في إشارة إلى استجابات كيميائية تحدث في الجسد، وتطلق هرمونات تنظم المزاج، وتجلب الشعور بالسعادة، وهو ما يلقي بظلاله إيجابياً على الصحة الجسدية والنفسية والعقلية. كما يساهم تبادل الهدايا في نسج شبكات تواصل يمكن أن تشكل استثماراً مستقبلياً مربحاً، تظهر فوائده بشكل خاص في تلقي هدايا داعمة في مراحل انتقالية صعبة من الحياة كالزواج والإنجاب، والانتقال إلى بيت جديد. ويمكن للجميع تقديم الهدايا بقدر الإمكانات، فالمال ليس لازماً دائماً، إذا ما اعتبرت الخدمات التي تسهل الحياة - كالجلوس مع الأطفال، وتصليح أشياء تحتاج إلى إصلاح، أو عمل فني يدوي بمواد متاحة - نوعاً من الهدايا.

 

النقود وبطاقات الهدايا

مع التقدم التكنولوجي وازدهار التسوق الإلكتروني، باتت شريحة كبيرة من الناس تفضل النقود وبطاقات شراء الهدايا المدفوعة مسبقًا. وهو ما بينه مسح أجري مؤخرًا وشارك فيه ألف أمريكي، حيث اتفق 61 في المئة من العينة على تفضيل تلقي النقود والبطاقات على الهدايا التقليدية، ولاسيما مع إمكانيات الشراء وإعادة بيع البطاقات على الإنترنت. وإمكانيات إرفاق صور وعبارات إهداء مع البطاقات الرقمية والتحويلات النقدية. وكشف المسح تفضيل 60 في المئة من النساء تلقي هدايا ملهمة ومثيرة للتفكير، بينما اهتم 60 في المئة من الرجال بفائدة الهدية الوظيفية. وناصر شخص من كلّ أربعة أشخاص من كبار السن التبرع الخيري مفضلاً ذلك على الهدية.

وتبدو مثل هذه الهدايا - وقوائم الأمنيات التي يمكن الاختيار منها - مرحباً بها بالنسبة للبعض لأنّها توفر جهد عملية البحث عن الهدية المناسبة، وتساعد المتلقين على شراء ما يحلمون به دون شعور بتأنيب ضمير لإنفاق مالهم الخاص على أشياء غير أساسية.

ومما يقدر في اقتصاد الهدايا تجاوز العاطي حسابات المصلحة الذاتية، والتخلي عن الأنانية، والسعي لتقديم سلع وخدمات بلا مقابل، تحقيقاً لأهداف اجتماعية كبرى، تتخطى قيمة الهدايا الحقيقية. فالمنتج المقدم مدفوع الثمن بإيمان راسخ بقدرة العطاء على تقوية العلاقات وتعزيز النسيج الاجتماعي. وتحفز معاملات هذا الاقتصاد العطاء، مما يدفع المتلقي إلى منح جديد لآخرين، وهو ما يعرف بالتفاعل المتسلسل الذي ينتج عنه تحول المتلقي نفسه إلى مانح في عملية مستمرة من الإيثار. كما يحدث في حالات التبرعات الخيرية سواء بالطعام، أو الدم، أو الوقت، أو الموارد الأخرى. وعند تأسيس كيانات وشبكات اجتماعية كالمؤسسات والجمعيات، حيث يعاد توزيع الموارد دون شروط المساهمة في المقابل.

وفي النهاية، لابد من تذكر مقولة تشرشل، التي يرى فيها أنّنا نكسب قوتنا بما نأخذ، ونعيش الحياة بما نعطي.

ارسال التعليق

Top