• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

(الإمّعة) أو (المعيّة)

أسرة البلاغ

(الإمّعة) أو (المعيّة)
 

(الإمّعة) أو (المعيّة)

في الصُّحبتان: الصَّالحة والفاسدة

 

 

 

 

 

 

لجنة التأليف – مؤسسة البلاغ



هما خياران:

إمّا أن تكون (مَعَ) السلبيّة: خاضعاً، مُستلباً، فاقداً لشخصيتك، ولتوازنك أيضاً.. تنعق مع الناعقين، وتنخرط في جوقة المطبِّلين والمزمِّرين.. تنجرف مع التيار، وتنساق مع الأهواء، وتُسلم قيادك للأشقياء.. فإذاً أنت (قشّةٌ) سهلة الكسر، أو (ريشةٌ) تتقاذفها الرياح في كلّ ناحية، ثمّ تهوي بها في وادٍ سحيق..

وإمّا أن تكون (مَعَ) الإيجابية: حُرّاً.. طليقاً، تختار متى وكما تشاء، وترفض متى وكما تشاء، وتُقبل متى أردت، وتمتنع متى رأيت أنّ الامتناع هو الموقف.. تسبح ضدّ التيار، فتعاني، لكنك تكتسب عضلات أقوى ومهارة أكبر..

هما خياران لا ثالثَ لهما:

إمّا أن تكون (خارجَ السفينة) تتلاعب بك أمواج الطوفان لتبتلعك.. وإمّا أن تكون (داخلَ السفينة) في صحبة الآمنين، والمطمئنين، الذين يُحكِّمون عقولهم لا غرائزهم.. يرجون النجاة حيث لا مأوى ولا منجى ولا مهرب ولو على جبل شاهق!!

هذه هي الكلمة التي يوجِّهها هذا الكتاب لقرّائه.. وتلك هي الرسالة التي يفتتح بها نداءه لكلّ ذي عقل حُرّ نيِّر من شبّان هذه الأُمّة وفتياتها على السواء!

 

ما معنى (مَعَ)؟!

(مَعَ) لفظة صغيرة مكوّنة من حرفين.. تكاد لا تُرى.. صغيرة في المبنى، لكنّها كبيرة، واسعة، غنية في (المعنى).. وسيتضح من خلال رفقتك لنا في هذا الكتاب كيف أنّ (مَعَ) الصغيرة هذه قادرة على أن تلعب دورَ البطولة: إمّا بطولة شرّيرة، شقيّة، تافهة، منفعلة.. وإمّا بطولة خيّرة، سعيدة، فاعلة ومتفاعلة.

(مَعَ) لفظ قليل المؤونة في النطق والكتابة، لكنه يفيد (المصاحبة).. اجتماع شيئين أو شخصين ليسا بالضرورة نافعين أو صالحين أو جيّدين.

(مَعَ) الخفيفة على اللسان، الثقيلة في الميزان، تأتي لمعانٍ ثلاثة:

1- (زمان الاجتماع): تقول: (جئتك مع العصر)، أي في هذا الوقت المحدَّد من النهار.

2- (مكان أو موضع الاجتماع): تقول: (اللهُ معنا)، أي أينما كنّا وحيثما وكيفما كنّا.

3- بمعنى (عند) وهي هنا تستعمل لقرب التشريف، ورفعة المنزلة، وإمكانية الحصول على الفضل. تقول: (أُصاحبكم لما معكم) أي لما عندكم من الفضل والخير الذي يمكنني أن أستفيد منه وأنتفع به.

وقد تجتمع المعاني كلّها في تعبير واحد.. تقول: (كنّا معاً) أي في زمان واحد، ومكان واحد، ومكانة واحدة.

بالنتيجة (مَعَ) (حيادية).. أنت وأنا مَنْ نوظّفها في الاجتماع على الخير والصلاح والسعادة، أو مَنْ نسخّرها في الالتقاء على الشرّ والعدوان والفساد والتعاسة.

 

ما معنى (الإمّعة)؟!

(الإمّع): الذي يقول لكلّ أحد: (أنا معك، ولا يثبت على شيء، لضعف رأيه، وهوان عزيمته، وعدم ارتكاز شخصيته على مقومات ثابتة)..

و(الإمّع).. المقلّد في الدّين تقليداً سلبيّاً غير واعٍ، إنّه وجد أسلافه على دين معيَن، وطريقة معتادة، فسلك مسلكهم من غير أن يناقش في صلاحية ذلك من عدمه.. إنّ واحد من جماعة (الألفة الآبائية) حيث يتبع الأبناء الآباء حتى ولو كانوا على ضلال وانحراف وتخلُّف..

و(الإمّع).. المتردّد الذي لا يثبت على صنعة، أو فكرة عقلانية، ولذلك فهو (طفيليّ) يتبع الأثر حتى ولو ساقه إلى الخطر..

زيادة التاء في (الإمّع) بحيث يصبح (إمّعة) للمبالغة.. فالإمّعة هو كثير الإتباع أو التبعية لغيره من غير رشد ولا تعقّل ولا حساب للنتائج المترتبة على سوء الصحبة وفساد الرفقة.

 

ما معنى (المعيّة)؟!

المعيّة: مصاحبة بين أمرين، أو شخصين، أو جماعتين، بينهما اشتراك في حكم يجمع بينهما.. فهي (الصحبة) و(الرفقة) و(الملازمة) و(الاجتماع)..

وغالباً ما تكون المعيّة في اجتماع الخيّرين، أو الصالحين، أو الأبرار.. فهي صحبة مباركة، ورفقة ميمونة، وملازمة نافعة، واجتماع مفيد، ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل القرآن الكريم يدعونا إلى مصاحبة العقلاء والفضلاء والعلماء والعاملين في العديد من نصوصه وتوجيهاته التربوية القيّمة، وينهانا -في المقابل- عن (الإمّعية)، وهي مرافقة الأشرار والسيّئين والفاسدين والمنحرفين.

وطالما أنّ المعيّة (اجتماع) في (مجتمع)، صالحاً كان أم طالحاً.. فالدعوة الإلهيّة للركوع مع الراكعين، دعوة لبناء مجتمع العابدين الذين يوظّفون عباداتهم لخدمة أنفسهم ومجتمعاتهم.

وكون الله تعالى (مع الصابرين) يعني مع (مجتمع الصبر) والتحمّل ومقاومة المنكرات والسيّئات، ودفع ضريبة الأذى في سبيل الله.

وكونه سبحانه (مع المتّقين) يعني إرادته وحبّه لـ(مجتمع التقوى) من الذين يراعون الله في حركاتهم، وتصرّفاتهم وامتناعاتهم، ومواقفهم كلّها.

وهكذا (مجتمع الأبرار) و(مجتمع الصالحين) و(مجتمع المؤمنين) و(مجتمع العاملين) و(مجتمع الصادقين) و(مجتمع المحسنين).. وباختصار (مجتمع الربّانيين).

 

ما هو الفارق بين (الإمّعة) و(المعيّة)؟!

من تعريف (الإمّعة) و(المعيّة) تبيّن لنا ما يلي:

1- (الإمّعة) رفقة، لكنها رفقة الندامة والخسران.. رفقة على غير هدى، ولا هي بالثابتة الراكزة التي يعتمد عليها.. هي (مسايرة) أو (مماشاة) أو (محاباة) أكثر منها رفقة واعية وعاقلة وحكيمة ومراعية لتعاليم الله.

هي انخراط مع المجموع باندفاع أعمى.. هي جزء من (القطيع) المهمل لإرادته، المتنازل عن عقله، المغيّب لشخصيته، الموافق على مصادرة حرّيته.. لقد أسلم قياده إلى الجماعة أو المجموع، لا يسأل إلى أين وماذا يراد به.

كيف يرسم القرآن لنا صورة هؤلاء (القطيع): ﴿إِلا أَصْحابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانا الْيَقِينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ * فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ (المدَّثِّر/ 39-51).

المجتمع الإيماني الصالح يسأل -في مشهد مثير من مشاهد القيامة- أبناء المجتمع القطيعيّ المجرم الفاسد: ما هو السبب الذي أدّى بكم إلى هذه النتيجة المأساويّة السوداء المريعة؟ ما الذي جعل الله تعالى يلقيكم في وادي جهنّهم الرهيب؟!

جواب المجرمين (مجتمع القطيع).. الإمّعات الخانعة الذليلة:

- لم تكن لنا صلة بالله تعالى.. لم نكن من (مجتمع المصلّين).. كنّا من (مجتمع الغافلين)!

- لم نكن نطعم المساكين.. لم نكن من (مجتمع المُحسنين).. كنّا من (مجتمع البخلاء)!

- كنّا نخوض مع الخائضين (المشتغلين بالباطل قولاً وعملاً).. لم نكن من (مجتمع الصّالحين).. كنّا من (مجتمع المنساقين مع التيار)!

- كنّا نكذّب بالمعاد وبالقيامة.. لم نكن من (مجتمع المسؤولية).. كنّا من (مجتمع الّلاأبالية).

 

 

خاتمة المشهد:

(حتى أتانا اليقين).. أي الموت الذي لابدّ منه والشامل لكلّ المجتمعات الصالحة والفاسدة.. لم نكن نحسب لهذا اليوم حسابه.

(فما تنفعهم شفاعة الشافعين).. لا يرتضي الله فيهم شفاعة أو وساطة أحد.

(فما لهم عن التذكرة معرضين).. لماذا لم يكونوا من (مجتمع الذّاكرين).. مجتمع (المعيّة) الصالحة، لا (الإمّعة) القطيعية.

(كأنّهم حُمُر مستنفرة).. إنّهم كمجتمع الحمير الهارب من أسد يشدّ عليهم ويلاحقهم ليفترسهم.. هل ينجو منهم -من مخالب الأسد- أحد؟!

2- (المعيّة) حركة عقلانية، رشيدة، متزنة، تحسب للرفقة والمرافقة حسابها الدقيق، فهي (مختارة) بعناية، لا تلوم نفسها على اتخاذ فلان! خليلاً أو صديقاً أو أخاً في الله، لأنّها للإنصاف لا تدخل في علائق غير مدروسة، أو غير محسوبة النتائج، على خلاف ذاك الذي ذكره القرآن لنا متأسّفاً، متحسّراً، متألماً، نادماً: ﴿يا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا﴾ (الفرقان/ 28).

هؤلاء النادمون على الإتّباع الأعمى يدركون متأخّرين كم هي مساوئ الصحبة السيّئة، ومدى تأثير الرفقة المخيبة للآمال، وكم كانوا جاهلين أو مغفلين لا يحسنون اختيار أصدقائهم ومرافقيهم.. إنّنا نكاد نسمع تأوّهاتهم المريرة، وحسراتهم المتصاعدة في قلوبهم المحترقة أن لو كان بإمكانهم تصحيح مسارهم: ﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا﴾ (الفرقان/ 27).. يقولها في الوقت الضائع، وبعد فوات الأوان، وفي اللحظة التي لا ينفع معها إصلاح!!

هذه التأوّهات الذاهبة مع الريح عديمة القيمة والجدوى، لأنّها تأتي في يوم لا يكون لنا فيه إمكانية التغيير، أو السماح بإصلاح ما فسد، من علاقات بينية بُنيت على خطأ.

إنّ أصدقاء السُّوء سيصرخون منفجرين بالأسى على الصحبة الفاسدة، يحاول كلّ منهم أن يلقي اللوم على الآخر، والجميع في الحقيقة ملومون.

تأمّل في هذا النموذج القرآني الذي يريد أن يتبرّأ من صاحبه الذي قاده إلى النار: ﴿قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ (الزخرف/ 38).

وفي حين نجد حقيقة تخاصم أصحاب السُّوء وتبادل الاتهامات في ما بينهم، واعتبار كلّ منهم صاحبه السبب في إيصاله إلى المصير الأسود، نرى أنّ المعيّة الصالحة تعيش السعادة بنتائج صحبتها: ﴿الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف/ 67).

 

الفرز القرآني للطائفتين:

في القرآن المجيد -كتابنا المرشد إلى السعادة ودليلنا إلى الصلاح- فرزٌ واقعٌ لكلّ من الفريقين أو المعسكرين أو المدرستين: (الإمّعات) و(المعيّات) لصحبة السيّئين، ومرافقة الأبرار.. وإنّ مجرد التأمّل في خصال وخصائص كلّ (معيّة) صالحة، وإمعيّة خبيثة، كافٍ لإعطاء الدرس في امتياز صحبة عن صحبة، ورفقة عن رفقة.

لنبدأ باستعراض الفئة الفاسدة التي تشبه التفاحة الفاسدة التي تفسد صندوق التفاح كلّه، فماذا نرى من بيانات القرآن في شأنها:

1- الإمّعة.. مصاحبة الشياطين (الذين يغرون بالمعصية ويتنصلون عن صاحبها بعد أن يقع أو يغرق في مستنقعها).

قال تعالى في صفة المنافقين: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ (البقرة/ 14).

إنّهم (مجتمع التلاعب والتزوير والتظاهر والتذبذب).

2- الإمّعة.. مصاحبة المشركين: (الذين يعملون ما يجب عمله لكن لغير الله).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام/ 14).

إنّهم -أي المشركون- مجتمع عصيان أوامر الله، ومخالفة تعاليمه، والانغماس في ما نهى عنه وحرّمه وعاقب عليه، ويفضلون شركاءهم عليه أو موضعه أو معادلين له.

3- الإمّعة.. مصاحبة الشكّاكين (الذين لا يرون الحقّ حقّاً ولا الباطل باطلاً وهو متشابهٌ عليهم).

قال جلَّ جلاله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ (البقرة/ 147).

إنّهم مجتمع (المتشابهات المختلطات من الأُمور).. أصحاب الرؤية المشوشة.

4- الإمّعة.. مصاحبة الجهلاء أو الجاهلين، (الذين لا يعملون بعلم).

قال تعالى: ﴿وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ (الأنعام/ 35).

إنّهم مجتمع اللّاوعي المعارض لكلّ علم ومعرفة بسنن الله في خلقه.

5- الإمّعة.. مصاحبة الخاسرين: (الذين يعرفون جوائز الله ولا يريدون الفوز بها).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ (يونس/ 95).

إنّهم مجتمع الفقر المعنوي.. خسروا الله فخسروا كلّ شيء.

6- الإمّعة.. مصاحبة الكافرين (العصاة المعاندين الراكبين رؤوسهم جهلاً وغروراً واستكباراً).

قال تعالى على لسان نوح 7 مخاطباً ابنه: ﴿ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ﴾ (هود/ 42).

إنّهم مجتمع الرافضين لكلّ ما فيه صلاح ومصلحة، الغارقين في أوهامهم وسفاهاتهم.

7- الإمّعة.. مصاحبة الصُمّ (الذين لا يسمعون كلام الله ولا ينتفعون به).

قال سبحانه: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ (الأنفال/ 21).

إنّهم مجتمع الطرشان المحرومين من فوائد الاستماع الحقيقي الذين يزيد في المعرفة والوعي واليقظة.

8- الإمّعة.. مصاحبة المرائين: (الذين يطلبون بعملهم كلّ شيء إلّا رضا الله).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئاءَ النّاسِ﴾ (الأنفال/ 47).

إنّهم مجتمع المظهرين للجميل المبطنين للقبيح، يبدون الطاعة ويستبطنون المعصية.

9- الإمّعة.. مصاحبة السّفهاء (الذين لا يحسنون التصرُّف).

قال جلَّ جلاله: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا[1]﴾ (النحل/ 92).

إنّهم مجتمع المبددين لأوقاتهم، المضيعين لجهودهم، المفرطين بوحدتهم وقوتهم.

10- الإمّعة.. مصاحبة المؤذين (الذين يتسببون في جرح الآخرين وإيلامهم بالقول وبالفعل).

قال تعالى: ﴿لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى﴾ (الأحزاب/ 69).

إنّهم مجتمع إلحاق الأذى بالآخرين وبالأبرياء وبالصلحاء.

11- الإمّعة.. مصاحبة الغافلين (الناسين لله الذاكرين لشهواتهم المحرّمة ونوازعهم المنحرفة).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ (الحشر/ 19).

إنّهم مجتمع اللاهين الذين نسوا الله نسيان معرفة وإجلال، فتركهم ينساقون مع أهوائهم وينسون وظيفتهم الحقيقية في الحياة.

12- الإمّعة.. مصاحبة الخائضين بالباطل (المنغمسين بالعبث والفساد والمحرّمات).

قال تعالى: ﴿ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ (المدَّثِّر/ 42-46).

إنّهم مجتمع المكذّبين بيوم الدّين وبالمعاد وبالقيامة وبالحساب.

13- الإمّعة.. مصاحبة المقلّدين تقليداً أعمى.

قال سبحانه: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّهُ وَإِلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنَا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ (المائدة/ 104).

إنّهم مجتمع البقاء والمراوحة في دائرة المُثل المنخفضة.. إنّهم نموذج للظاهرة الآبائية التي يرث فيها الجيل اللاحق سلبيات الجيل السابق من دون رفض أو مناقشة أو تعديل.

14- الإمّعة.. مصاحبة الظالمين (لأنفسهم ولغيرهم).

قال تعالى: ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ (الأنعام/ 68).

إنّهم مجتمع الظلم والعدوان الذي يشترك فيه (الظالم) و(المعين له) و(الساكت عنهم).

تلك هي مجتمعات الإمّعات والتبعيات الخانعة الذليلة.. أمّا المعيّة الصالحة، فمن نماذجها:

1- المعيّة.. معيّة الراكعين (المصلّين) الذاكرين الله في جميع أحوالهم.

قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ (البقرة/ 43).

هؤلاء هم مجتمع (صلاة الجماعة) الذين يقفون صفاً بين يدي الله، وصفاً مرصوصاً بوجه أعداء الدّين والحياة والقيم الخيّرة العليا.

2- المعيّة.. معيّة الصابرين (الذين يصبرون على الطاعة والمعصية والإبتلاء).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ (البقرة/ 153).

هؤلاء هم مجتمع الصبر والأناة وتحمّل المكاره والشدائد والمتجنبين الجزع والشكوى من المشاق والمحظورات.. وانّهم الداخلون الجنّة بغير حساب، وقيل: قبل الحساب.. ونعم أجر العاملين.

3- المعيّة.. معيّة المتّقين (الذين يبتعدون عن المعاصي ولا يقتربون من الفواحش).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة/ 194).

هؤلاء مجتمع التقوى والوقاية: الوقاية من الزلل والخطأ، والعودة سريعاً إلى ساحة الله تعالى إذا أخطأوا أو مسّهم طائف من الشيطان.

4- المعيّة.. معيّة الشاهدين (بالحقّ وللحقّ ولأهل الحقّ).

قال سبحانه: ﴿رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ (آل عمران/ 53).

هؤلاء هم مجتمع الشهادة بلغوا مرحلة من القرب إلى الله بحيث راحوا يشهدون لأصحاب الحقّ، ويراقبون مسيرة الحقّ مخافة الانحراف ليعيدوها إلى مسارها الطبيعي.

5- المعيّة.. معيّة الأبرار (الذين يلتزمون بأوامر الله تعالى حقّ الالتزام وينتهون عن نواهيه حقّ الانتهاء والامتناع).

قال جلَّ جلاله: ﴿رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلإيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ﴾ (آل عمران/ 193).

هؤلاء هم مجتمع البرّ والأعمال الصالحة الذين يطيعون الله فيها ليزدادوا قُرباً منه في إحسانهم للنّاس.

6- المعيّة.. معيّة الصالحين.

قال عزّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا﴾ (النِّساء/ 69).

هؤلاء هم مجتمع النبل الإنساني في أرقى درجاته والعطاء الربّاني في أفضل مستوياته، ما يجمعهم هو (الصدق) و(الصلاح) و(العمل في سبيل الله) أي إنّهم يقفون في خدمة عباد الله معاً، وأيّة رفقة أحسن وأروع وأكمل من هذه؟!

7- المعيّة.. معيّة المؤمنين.

قال جلَّ جلاله: ﴿إِلا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النِّساء/ 146).

هؤلاء هم المجتمع الإيماني أو مجتمع المؤمنين -وإن تباعدت بهم المسافات ونأت أو تفرّقت البلدان- التائبون إلى الله إذا أخطأوا، الصالحون في ذواتهم، المصلحون لأخطاء وعيوب الناس، المتمسكون بحبل الله (دينه العظيم)، المخلصون له في أعمالهم.. إنّهم مجتمع الغاية المنشودة لكلّ الرسالات السماويّة والدعوات الإصلاحيّة.

8- المعيّة.. معيّة الصادقين.

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ (التوبة/ 119).

هؤلاء هم مجتمع الصادقين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. صادقون في أقوالهم وصادقون في أعمالهم، وصادقون في مواقفهم، وصادقون في تعاملاتهم.

9- المعيّة.. معيّة المحسنين.

قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ (النحل/ 128).

هؤلاء هم مجتمع الإحسان: يحسنون لأنفسهم بحب الله وطاعته، ويحسنون للآخرين بالتعاون معهم وإرشادهم إلى طرق الخير.. هم وجه الحياة الأبيض وبسمته المشرقة ونسماته المعطّرة العليلة.

10- المعيّة.. معيّة المجاهدين.

قال جلَّ جلاله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ﴾ (الأنفال/ 75).

هؤلاء هم مجتمع الجهاد في سبيل الله: بالأموال ينفقونها على المحتاجين، وبالأقوال يقولون أحسنها ليقرّبوا الناس إلى الله أكثر.. وبالأعمال: مجاهدة للنفس أو محاربة للعدوّ.

11- المعيّة.. معيّة الله عزَّ وجلَّ.

قال سبحانه عن النبيّ 6: ﴿.. إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة/ 40).

وقال جلَّ جلاله لموسى وهارون 8عندما بعثهما إلى فرعون: ﴿قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى﴾ (طه/ 46).

وهذه المعيّة هي أُمّ المعيّات السابقة: منها تستمد روحها وقوّتها وسرّها وبركتها.

 

خلاصة القراءة القرآنية:

1- (الإمّعات) مجتمعات ضيّقة، مختنقة، مقيّدة، منغلقة، رتيبة، هشّة، متخلّفة.. نسخ متكررة.. أجسام مختلفة وعقول متشابهة.. تعيش (الألفة الآبائية).

(المعيّات) مجتمعات آفاقية.. منفتحة.. تعيش الرحابة الفكرية والسعة الإبداعية.. حرّة.. متعاونة ومنتجة.. و(ائتلافية).

2- (الإمّعات) صحبة سيّئة بين (السيّئين) وبين (المسيئين): شياطين ومشركين، وشكّاكين، وجاهلين، وكافرين، ومرائين، وسفهاء، ومجرمين، وناسين ربّهم، ناكرين لمعادهم.. ومجتمعات كهذه لا تُنتج غير (التعصّب) و(التخلُّف) و(التقليد الأعمى) و(اتباع القطيع) وخسران الرحمة الإلهيّة والصحبة الكريمة، بل خسارة الدنيا والآخرة.

(المعيّات) صحبة صالحة بين (الصالحين)، وبين (المصلحين): أبراراً وصابرين وعابدين (مطيعين لربّهم محسنين للناس أمثالهم، وصادقين، ومؤمنين، ومجاهدين، لا يعيشون المعيّة فيما بينهم فقط، بل ينعمون بمعيّة الله تعالى أيضاً)!

مجتمعات هذه أوصافها وملامحها مباركة كشجرة طيّبة تؤتي أُكُلها كلّ حين بإذن ربّها: انتفاعاً بالصحبة الكريمة، واكتساباً للفضائل والقيم، وورعاً دنيوياً وفوزاً أُخروياً.

3- بالمقارنة بين الفئتين أو (المدرستين)، تتجلّى الفوارق الكبرى بين مساوئ (الإمّعات) وفقرها، ومحاسن (المعيّات) وغناها، وبالتالي يمكن من خلالها تحديد جهة الاختيار واتخاذ القرار.

مع مَنْ أكون؟

مع (المعاندين) الواهمين إنّ الجبل العالي يحميهم من الطوفان؟! أو مع (الراكبين) في سفينة النجاة الربّانية التي لا سفينة غيرها؟!

عند الطوفان، كما عند الامتحان، يُكرمُ المرء أو يُهان، ومَنْ يُهن الله فما له من مُكرم!!

وفي أزمة الطوفان، أنا، وكلّ إنسان، بين خيارين: إمّا مع (نوح) الحياة والنجاة.. وإمّا مع (كنعان) الغرق والهلاك.

 

القيادات العليا تُحذِّر من مخاطر (الإمّعة):

في وقت مبكر جدّاً، حذّر آخر الأنبياء محمّد 6 المسلمين من أن يكون أحدهم (إمّعة)، حيث رُوي إنّه خاطب المسلمين (ليسوا الذين كانوا معه وفي صحبته فقط، بل المسلمين كلّ المسلمين على امتداد الزمن الإسلامي الأرضيّ كلّه)، قال: «لا تكونوا إمّعة»!!

قيل: وما الإمّعة يا رسول الله؟!

قال: «تقولون إنّ أحسن الناس أحسنّا، وإنْ ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساءوا أن لا تظلموا»[2].

وطّنوا أنفسكم: احملوها على العمل المختار بعقلانية.. اتّخذوا لها الموقف السليم.

في النصّ النبويّ أكثر من إشارة قيمة:

1- النهي عن الاتباع السلبيّ: (لا تكونوا إمّعة) تحسنون مع المحسنين، وتظلمون مع الظالمين، بحجة أن هكذا يفعل كلّ الناس.. كيف نقول هذا ونحن نقرأُ كتاب الله الذي يدعونا إلى عدم الوقوع أُسارى في شباك العقل الجمعي: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة/ 105).

(عليكم أنفسكم) أي الزموها لئلّا تنفلت وتنزلق مع المنزلقين أو تنحرف مع المنحرفين، وتُقصّر مع المقصّرين، ولذلك قيل: "أفضل العقل معرفةُ المرء بنفسه"!.

2- الإعداد التربوي والتثقيف الذاتي لتحمّل مسؤولية الموقف الحُرّ: إحساناً مع المحسنين، ورفضاً وممانعة للإساءة مع المسيئين، فكلّ منّا -مهما كانت أعذاره- مسؤولٌ عن مواقفه واختياراته: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ (الصافّات/ 24)، ﴿بَلِ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ﴾ (القيامة/ 14-15).

3- الإشادة بالعقل الحُرّ المستقل المستنير بنور الحقّ في التمييز ما بين (الصالح) و(الصلحاء)، وما بين (الفاسد) و(الفاسدين).. احرص على الأوّل حرصك على حياتك ومالك ومواهبك العزيزة الغالية، وانبذ واهجر الثاني.. لا تكن جزءاً من الماكينة التي تنتج (الفساد) وتروّج له، وتسوّقه.

في ما يُنسب إلى الإمام عليّ بن أبي طالب 7 من شعر:

إذا المشكلاتَ تصَدَّينَ لي

كَشَفتُ حـقـائـقَـهـا بـالـنَظَرْ

ولسْتُ بإمَّـعَـةٍ في الرجـال

أسائلُ هذا وَذا ما الخَبَر؟!

ويوصي الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7 أحد أصحابه، فيقول: «لا تكوننّ إمّعة! تقول أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس»[3].

وهذا هو نفس المفهوم الذي تدعو إليه ثقافات الشعوب اليوم.. فمن أمثالهم: لا تكن واحداً (من المليون)، بل كن واحداً (في المليون)! أي لا تكن غائباً مغيّباً مغموراً مطموراً في خضم المجموع، تقول لكلّ أحد: أنا معك!، بل كن مميّزاً، بارعاً، ماهراً، متفوّقاً في أي محيط اجتماعي أو عملي تتواجد فيه.. كُنْ نَفسَك.. تكن مبدعاً ولو في أبسط الأشياء.

 

نظرية (العقل الجمعيّ):

نظرية العقل الجمعي التي تقابل منطق (الإمّعة) أو (الألفة الآبائية) من النظريات الاجتماعية التي تتلخّص في أنّ كلّ جماعة تتألف من عدد من الأفراد، ولكنها -من الناحية النفسية- ليست هي المجموع الحسابي أو العددي لأفرادها، فالتشكيل أو الناتج الجديد المتكوّن أساساً من الأفراد، يمتاز بخصائص جديدة لا توجد في الفرد الواحد، حيث ينتج عنها (عن الجماعة) تصرّفات مختلفة أو مغايرة لما يمكن أن يتصرّفه الفرد في ما لو كان بمفرده أو بمعزل عن الجماعة.

علماء الاجتماع يرون أنّ الجماهير أو الحشود الكبيرة لها عقل جمعي مختص بها يعدّ أَحطّ أنواع العقل من حيث طريقة الاستجابة للأحداث، لأنّه ينزل بأصحابه إلى مستوى الصفات المشتركة التي تجمع بينهم، وهي في الغالب صفات غريزية، الأمر الذي ينتج عنه تعطيل طاقات (الذكاء) و(الإبداع)، فتصبح الجماهير أو المجاميع المنقادة للعقل الجمعي محكومة بتحركات تلقائية كثيرة الشبه بالاستجابات اللّاشعورية.

العقل الجمعيّ إذن هو مجموع العادات والتقاليد والأعراف والمقاييس الجمعية بغض النظر عن مصادرها ومدى صحتها.. وهو ليس سلبياً كلّه، بل له أهميّة خاصّة في تحقيق (التوازن) و(التماسك) خاصة في مجتمعات الأُسرة والعشيرة والحزب والدولة.. ويعدّه بعض علماء الاجتماع من أهم مؤسسات الضبط الاجتماعي لما له من هيبة أو سلطة يؤدّي الخروج عليه إلى ردّة فعل غير مناسبة، وربّما اعتبر (تمرّداً) أو (شذوذاً) أو (نغمةً نشازاً) أو إضعافاً لقوّة المجتمع ووحدته، ولذلك كثيراً ما تحتاج أو تلجأ المجتمعات الضيقة أو المغلقة، أو التي لا تعرف معنى للمارسة الديمقراطية، إلى العقل الجمعي حتى تمضي قراراتها وتنفّذ المراد من طموحاتها، ذلك أنّ الجماهير تفقد عادةً -تحت تأثير العقل الجمعي- قدرتها على تحديد السلوك المناسب بدافع افتراض إنّ الآخرين يعرفون أكثر من الفرد في تلك الحالة، أو إنّ عقل الجميع أو مجموع عقول المتفقين على شيء أو شأن هو بالضرورة أكبر من عقل الفرد، فيتم ركن العقل الفردي جانباً وإن كان أكثر حكمة لصالح العقل الجمعي.. وإن كان أقل حكمة وأكثر اندفاعاً.

إنّ سلطة الجماعة على الفرد تظهر في قابليته أو استعداده للانصياع والإذعان والانحياز السريع إلى قراراتها بما نصطلح عليه بـ(سلوك القطيع) حيث يعتقد الفرد -إنّ الجماعة لمجرد أنّها جماعة- أجدر منه بمعرفة الحقّ أو الصواب.

وتختلف آثار وقوّة العقل الجمعي باختلاف ثقافة المجتمع.. فمجتمع الانغلاق يتوافق مع العقل الجمعي أكثر من توافق المجتمعات المفتوحة التي يميل أفرادها إلى (التغريد خارج السرب) أحياناً من غير أن يجدوا نكيراً أو استنكاراً أو استهجاناً لخروجهم على الجماعة أو على السائد، أي من غير أن يعتبر ذلك خروجاً على (القانون)، أو على (الشرعية)، أو على النسق العام المنتظم لحركة سير ذلك المجتمع.

ويستفاد من نتائج الدراسات الاجتماعية -النفسية- حول العقل الجمعي، إنّ من بين تطبيقاتها العملية وآثارها السلوكية، ما يلي:

1- إنّ رأي الشخص صاحب الرأي الصائب حول موقف معيّن أكثر جدارة بالقبول من رأي المجموعة المندفعة بانفعالاتها، وهو ما يعبّر عنه بـ(استقلالية الرأي) أو (الرأي الحُرّ) أو امتلاك المعرفة الخاصّة بالموقف أو التصرّف، ويمكن ملاحظة ذلك عند الذين يخرجون من عباءة العشيرة، أو من صفوف التنظيم الحزبي، بعد أن تكون مداركهم العقلية، وخبراتهم الذاتية، وآراؤهم الشخصية قد نضجت ولم تعد تحتمل أن تكون تابعة، أو منقادة، أو محكومة لإطار عمل عشائري ضيّق، أو حزبي أو فئوي أو طائفي مختنق داخل هذه الدوائر التي تضيق بالسعة أو الاتساع أحياناً.

من هذا الفهم، ليس بالضرورة أن يكون كلّ مَنْ خرج على عشيرته أو حزبه أو طائفته أو إطاره الضيّق المحدود، شاقاً لعصا الطاعة أو متمرّداً أو منشقاً يجب أن تتخذ بحقه الإجراءات العقابية الصارمة، فقد يستشعر ابن العشيرة المثقّف إنّ عباءة عشيرته قد ضاقت عليه (بأعرافها وتقاليدها لا بانتمائها القبلي)، أو حتى بهذا الانتماء الذي يتعارض مع انتمائه الفكري أو الديني، وإنّ إطار الحزب الذي يعمل فيه بات خانقاً لا يتيح له حُرّية النقد والإصلاح، فضلاً عن حُرّية الإبداع والتفكير والاختلاف.. وبالتالي، فإنّنا ومن منطلق إبداعي لا نعتبر كلّ تغريد خارج السرب نغمات نشازيّة في سمفونية الجماعة، وإنّما نعدّه -في بعض الحالات والأحيان- خروجاً على قوالب التقليد الصارم، والرتابة المملة، والاجترار المقرِف، والتوافقية الإلجائية الإلزامية، والنسخ المكرَّرة باجترار بليد، أو الحركة الدائرية الباعثة على الخمول والانجماد والتجمّد.

2- إذا رأى شخص ما أنّه قادر على وضع نفسه كشخصيّة قياديّة ضمن جماعة معيّنة، وفي مواقف بعينها، فإنّه يكون أقلّ احتمالية للانقياد اللّاواعي لرأي المجموعة المحيطة به، ويمكن أن يحقق نوعاً من المزج بين الاندماج مع المجموعة وبين امتلاك المعرفة الخاصة، أي إمكانية جمع الذاتي مع الموضوعي، بما لا ينتج عصياناً مدنياً أو تمرّداً اجتماعياً، أو شقاً لعصا الطاعة.

إنّنا هنا نميّز بين أمرين: بين الاستجابة اللّاواعية، والانقياد الأعمى من جهة، وبين الاستجابة المدروسة بعناية، من جهة أخرى، وهذا يعني أنّ مقومات شخصيتك -كشاب أو فتاة- تلعب دوراً مهمّاً في تقرير ما إذا كنت تحمل بعض الصفات القيادية، أو الصفات الانقيادية.. صحيح أنّ أصحاب الرأي المتميز أو المعرفة الخاصّة مُتعِبون لجماعاتهم، وربّما يعتبرون (مشاكسين) أو (مشاغبين) أو (متآمرين)، لكنّهم -في النظرة الإيجابية المحايدة- عامل من عوامل تحريك جمود الجماعة، وجعلها تعيد النظر في أخطائها وتصرّفاتها ومواقفها وحساباتها وحركاتها الرتيبة أو الارتدادية.. وربّما هو هذا الذي يرمي إليه علماء الاجتماع من المزج بين (الاندماج الذكي مع المجموعة) وبين (حقّ امتلاك المعرفة الخاصّة).

3- قد لا يهتم شخص لرغبات أو تطلُّعات شخص آخر من محيطه الاجتماعي الضيّق، لكنّه يهتم بذلك إذا كان يعنيه شخصياً وينطلق من محيط قريب من محيطه، فقد ترفض الأُمّ -مثلاً- أن يشتري ابنها أحذية رياضية جديدة ليبدو متوافقاً مع زملائه، لكنها تذهب إلى شراء زينة أو قطعة أثاث وربّما حتى حقيبة يد أو حذاء إذا كنّ بعض صديقاتها ابتعنها مؤخراً، وادّعين إنّها الموضة العصرية السائدة الآن، أو إنّ مَنْ لا يمتلكها لا يتحقق انتسابه إلى المجتمع المخملي.

الأُمّ هنا ترفض لابنها الانقياد أو الانصياع إلى (العقل الجمعي)، أو أن يكون إمّعة، لكنها هي نفسها تنساق معه أو تستجيب له، وسواء مثَّل ذلك ازدواجية في الفكر والسلوك، أو عدم تقدير لأهميّة العقل الجمعي في مجتمع الصغار، وإعطائه أهميّة أكبر في مجتمع الكبار، إلّا أنّه مؤشر على ازدواجية المعايير وأزمة المقاييس في المجتمعات الانقيادية (الإمّعات).

نحن يمكن أن نقيس صلاح عمل ما من عدمه من خلال ما تفاعلت الإبداعات في صيرورته وإنتاجه، ومقدار ما أُعمل فيه من عقول متلاحقة، لا من خلال إحصائية لعينات من المتعاطين مع هذا البرنامج أو المنتج أو ذاك، لأنّ الإحصائيات لا تمثل الدقة العلمية ولا الحكم الشمولي، وإنما هي نظرات مقتطعة من شرائح اجتماعية قد لا تمثل بالضرورة النظرة الاجتماعية الكلّية، ولا دليلاً قطعياً على قراءة الميول والاتجاهات الاجتماعية.

خُذ -مثلاً- ظاهرة التصفيق كأسلوب شائع من أساليب التشجيع والاستحسان.. فهل نعتبر حرارة التصفيق وحدها دليلاً كافياً على الجودة والبراعة؟ إنّ بعض المصفقين قد يكونون مزروعين في المسارح والقاعات والصالات والاجتماعات السياسية والأدبية والانتخابية، فتراهم أوّل مَنْ يُصفّق بحرارة من أجل أن يتبعهم باقي الجمهور أو الحضور في موجة تصفيق (حادة) أو (باردة) في محاولة للمسايرة والمجاملة، أو لكي لا يُتهم غير المصفّق بالبلادة وعدم التذوّق لما يسمع أو يشاهد، لاسيّما وإنّ التصفيق -خاصّة الحارّ والعاصف منه- بات اليوم يمثل علامة على جودة الأداء، وهذا ما تلجأ إليه بعض استديوهات التلفاز أو الفضائيات من رفع مستوى موجات الضحك على البرامج الفكاهية باستخدام الضحك الاصطناعي المفتَعل عند اللقطات المثيرة له، حتى ولو كان الضحك المسجّل مزعجاً.

أصحاب هذه الطريقة التسويقية أو الأسلوب الدعائي يعتقدون أنّ البرامج التي تحتوي على الضحك المسجّل فكاهية أكثر من غيرها، ومشاهدة أكثر من سواها، وقد تنطلي اللعبة على بعض المشاهدين في عملية إيحاء وتلقين إنّ الأمر المشاهد يستحق الضحك فعلاً، والحال أنّ أذواق المشاهدين مختلفة، فليس بالضرورة ما يضحكك يضحكني، أو ما يضحكني يضحكك، أي ليس هناك إجماع حقيقي على الضحك أو على غيره، وإنما هناك إجماع تمويهي يراد له أن يتحوّل إلى حقيقي بتوظيف العقل الجمعي أو السلوك القطيعي.

ومثل مشاهد الضحك المصطنعة، ما نلاحظه في الأوساط الرياضية والفنية والأدبية من موضة التصويت لشخص معيّن حتى ولو لم يكن أداؤه عالياً أو مميّزاً أو أنّ مهاراته استثنائية.

ومثلما قسّم علماء الاجتماع العقل إلى (جمعي) تابع، في مقابل (العقل الناقد) الحُرّ ذي التفكير المبدع الخلّاق، أو الرافض للانسياق مع الجوقة، قسّم علماء النفس العقل أيضاً إلى عقلين: (عقل واعٍ) و(عقل لا واعٍ)، فبينما الأوّل: يعي ما يحدث، وهو منطقي وتحليلي، ومفكّر، ويمكن أن يقدّم تصوّرات ناجحة، ويستطيع أن يتغيّر نحو الأحسن، فإنّ الثاني (غير الواعي) هو الذي يختزن الذكريات، ويحرّك العواطف والمشاعر بما يحرّكها من عوامل خارجية، ويعتمد على الأخلاقيات والسلوكيات السائدة ويتفاعل مع الرموز التقليدية، ويجاري العادات لأنّها أقل جهداً ومعارضَةً.. وباختصار فهو غير قادر على الفرز والتمييز، ولا يملك مقومات أو معايير يحدّد على ضوئها اختياراته.

 

 

 

سلوك القطيع:

لعلك شاهدت كيف أنّ الشياه (قطيع الأغنام) إذا اتجه بعضها إلى الماء أو الطعام، اتجه باقي القطيع معه، حتى وإن لم يكن عطشاناً أو جائعاً، وقد تنساق تحت وقع الأقدام أو الأجراس المعلّقة في رقابها إلى الذهاب إلى المسلخ دون أن تعلم أنه يراد بها الذبح!

وقد أطلق بعض الكتّاب على هذه السلوكية المجتمعية بـ(عقلية العوام) وأسماها (الجاحظ) بـ(الحشوية) لأنّ أصحابها لا ينتفعون بما يتعلمون، بل تتحوّل عقولهم مثل الليف الذي تُحشّى به الوسائد.. وتعبير (العوام) يراد به العامّة من الناس من الناعقين مع كلّ ناعق، الذين لا يلجأون إلى ركن وثيق ولا كتاب منير، إنّهم كـ(جحا) الذي أخبر جماعة أنّ ثمة وليمة في مكان ما، فلمّا رأى الأقدام تخفّ إليها والجموع تتسارع نحوها، صدّق هو أيضاً الكذبة والتحق بالمتدافعين.. فكأنّ الذي يسوق (القطيع) هو (أقدامه) لا (عقله)، ووقع الطبول لا المعقول وغير المعقول.

هناك أسئلة مفصلية تتعطل عند العوام أو القطيع أو الإمّعات، من قبيل: من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ وماذا؟ ولماذا؟ إنّهم يتحرّكون حركات آلية موجهة بـ(الريموت كنترول) لا بإيعازات العقل وإرشادات البصيرة، ولذلك فإنّ الذي (يستخفّ) بها أكثر هو الذي (يخفّف) حركة سيرها أكثر.

عقلية القطيع (الإمّعات) -كما يصفها المحلّلون- ضعيفة التفكير، رديئة التحليل، بدائية القوى والمهارات، ساذجة في علائقها.. لا تربط بين مقدمات الأُمور ونتائجها.. تميل إلى تصديق الخرافة والإشاعة والأخبار المفبركة، وتتشبث بالمجهول، ولا تسأل عن برهان، ولا تفتش عن دليل.. ترتاح إلى التقليد لأنّه قليل المؤونة، وتعشق التبعية لأنّها إلقاء للمسؤولية على أكتاف الغير، ولا تعرف معنىً للاستقلال في الرأي.. عقلية أحادية تسير في دروب المارة بمقتضى التوجيه الغريزي. وبالتالي، فهي عقلية عاجزة لا تنتفع بهدي إلهي، أو نور علمي، ولا تتعظ من تجاربها.

يقول الحقّ سبحانه وتعالى في صفة وطبيعة عقلية القطيع مقارنةً بصفة المشغَل عقله، المستفيد من تجاربه: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الملك/ 22).

القطعان (الحيوانية والبشرية) تمشي عادةً مكبّة على وجوهها.. تأمّلها أثناء سيرها، إنّها لا ترفع عن الأرض أنظارها.. تسير بلا هدف.. إيقاع المشي الجماعي هو الذي يحدّد وجهتها، وضربات عصا القائد هي التي تغيّر اتجاهها، ذلك أنّ القطعان لا تستطيع أن تنفصل أو تبتعد عن مثيلاتها أو صنفها أو جنسها الذي تتشابه معه عقلاً وحركةً.. هناك دائماً ما يربط قطعان الماشية بحبل سرّي هو تسليم القيادة إلى القائد، أميناً كان أم خائناً.. قادها إلى المرعى أو ساقها إلى المسلخ، وعلى ذلك يصحّ وصفها بـ(الذليلة) (المُذلَّلة)، حيث يمكن لإنسان واحد -حتى لو كان صبيّاً- أن يقود آلافاً منها إذا تمتع بالمهارة المطلوبة.

الحكّام المستبدون.. استفادوا كثيراً من سلوكية القطيع، فهم يفعلون بمواطنيهم أو شعوبهم كما يفعل قائد القطيع بقطيعه.. إنّهم يخضعون البعض فقط ليخضعوا بهم الآخرين بإيعاز العقل الجمعي أو الرّعب الجمعي، مثلما يخضع القطيع بالعقل الغريزي.. وما يحصل من جرّاء ذلك خطير.. خطير جدّاً.. فالجموع تتنازل أو تستقيل عن إرادتها وتتخلّى عن حُرّيتها، وتُعطّل عقولها، وتُجمّد معنوياتها، ولا يبقى معها من دوافعها إلّا الاستجابة الطوعية أو الإكراهية لمآرب (قائد القطيع).

يقول الحقّ سبحانه في استجابة بني إسرائيل (وهم جموع غفيرة) لفرعون وهو فردٌ حاكم: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ (الزخرف/ 54).

والخطير الخطير أيضاً -كما استنتج بعض مَنْ قرأ سلوكية أو عقلية القطيع- أنّها قائدة أو تؤدي -طال الزمن أو قصر- إلى (نفسية العبيد) الفاقدة لإنسانيتها، والراضية بمقام الذلّ، تجمعها العواطف الواطئة، وتحرّكها المصالح الضيقة، حتى يمكن انخراطها بسهولة في (المشاعر الافتراضية) تماماً كما يحدث من تفاعل آلي مع ألعاب الكمبيوتر أو المقامرة على الشبكة العنكبوتية، أو التصويت للمطربين الهواة، أو الهتاف في التظاهرات، أو مشاهد رفع الأيدي بالتصويت.. فكأنّ الجماعة أشبه بقطع الدومينو إذا أسقطت واحدة سقطت كلّها.

ومن التطبيقات التي أجريت الدراسات بشأنها إنّ مشهد البدناء (السِمان) قد يمثل مشهداً عادياً أو معتاداً في مجتمع يكثر عدد المعانين من البدانة فيه، ذلك إنّ (منطقة الصراع) في دماغ الإنسان الذي تعوّد على رؤية السمنة كمشهد يومي لا يثير الاستهجان، ويطالعه في كلّ مكان، لم تعد ترى السمنة أمراً سلبياً، وبالتالي تتم (استدامة) سلوك تناول الطعام بدلاً من (تصحيحه)، وقد يتلقى بعض الأصحاء أو ذوي القامات الرشيقة الرسالة الدماغية تلقّياً سلبياً: هل نحن على خطأ؟!

وتفيد تلك الدراسات المهمّة في ملاحقة سلبيات (عقلية القطيع).. وتأثيرها المجتمعي المدمّر أنّ وسائل الإتصال الإلكتروني (الفيس بوك) و(تويتر) و(بلاك بيري مسنجر) ساعدت بدرجة كبيرة في صناعة (هوية مشتركة) ليست دائماً صالحة أو إيجابية أو مشروعة أو عقلانية، خاصةً في أوقات التردد والاضطراب والبلبلة وعدم التيقّن، وأثناء شيوع حالات الهلع والانفعالات الشديدة، حيث يمكنك مشاهدة سلوك القطيع بشكل واضح.. وإذا شئنا استخدام لغة (الكمبيوتر)، فإنّ بالإمكان (برمجة) قطاعات عريضة من الشبان والفتيات لإبداء نفس ردّة الفعل الإيجابية أو السلبية والانقياد إلى النموذج أو البرمجة السيّئة هو نوع من أنواع (الإمّعة)، مثلما إنّ النمط الإيجابي قد يعبّر عن (المعيّة) اعتماداً على الخلفية الثقافية وقدرة كلّ شاب وفتاة على استقبال الرسالة وقراءتها قراءة (متفحّصة) و(متأنّية) و(مقلّبة) و(منقّبة) و(محقّقة) و(ناقدة).

بعض علماء النفس الاجتماعي المعاصرين يرون بأنّ الأفراد لا يفقدون الهويّة في (خضمّ) الجمهور، ولا يفقدون السيطرة على سلوكهم أو عقولهم، بل إنّهم يتحوّلون بدلاً من ذلك إلى (هوية اجتماعية مشتركة)، ويسعون إلى التصرّف بوحي من تلك الهوية المشتركة، وكأنّهم بذلك يفندون نظرية (العقل الجمعي) أو يخففون من وقعها الاجتماعي، في حين نجد أنّ القرآن الكريم يؤكّد هذه النظرية في أكثر من موضع، كاستخفاف فرعون بقومه وطاعتهم له، وكتصديق قريش إشاعة أنّ النّبيّ 6 الذي قضى أربعين عاماً (صادقاً أميناً) يمثل العقل الذي يُسترشد به في المهمات والأزمات، هو (مجنون)، فكيف عالج القرآن مشكلة (العقل الجمعي)؟

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ (سبأ/ 46).

لقد أراد للعقلاء أن ينفصلوا عن التأثيرات الضاغطة للخط المجتمعي الذي أشاع أنّ محمّداً 6 أصابه مسّ من الجنون، أو خالط عقله شيء منه، ليعيشوا التفكير الحُرّ، والاستقلالية الفكرية، ومحاكمة ما يجري بعيداً عن الإملاءات الخارجية، لأنّهم إذا فعلوا ذلك قادهم التفكير الهادئ غير المنفعل إلى نتيجة غير التي يروّج إليها في الوسط الاجتماعي.

نعم، قد يكون الرأي الأخير الذي ساقه علماء النفس الاجتماعي مقبولاً لجهة استخدام الاندفاع الطوعي، أو الحماسة المشتركة من أجل الوصول إلى أهداف نبيلة.. أمّا إذا وظّف ذلك في التلقين لإيجاد ميول منحرفة ومآرب مشبوهة، فإنّ الإحساس بالعضوية في الجماعة أو المجموعة، سينقلب إلى حالة قطيعية مدفوعة بـ(الغريزة) أكثر من اندفاعها بـ(العقل) الواعي، ولذلك كثيراً ما نلاحظ كيف أنّ عقلية أو سلوك القطيع يحدّ من الإبداع وربّما يقتله في مهده، بل يوقف مصادر التفكير من أن تموّن العقل بالموقف السديد والتحرّك الرشيد، أي إنّ الذي يقرّر ليس هو الإنسان نفسه، بل يقرّر الآخرون عنه، وما عليه إلّا أن يستجيب.

ويمكن ملاحظة ذلك ومتابعته في ما يُصطلح عليه بـ(سيكولوجية المنبر والمنصّة)، حيث المتكلّم واحد والمستمعون أو المتلقون كُثر.. المتحدّث يلقي بـ(حممه)، والجماهير تشتعل بنيرانها.. هو يجيد الصياغة دون العمق، وهي تتفاعل مع البلاغة والإنشاء لا مع الرسالة والماوراء، وتلك هي خطورة الثقافة السمعيّة والتلقين اللّاواعي، وتحويل شرائح المجتمع إلى قطيع ببغاوات تكرّر ما تسمع من غير أن تحاكم ما تسمع، فضلاً عن محاكمة من تسمع منه.

بقي أن نناقش ما قد يبدو متعارضاً مع عقلية القطيع أو سلوكية الإمّعات، مما ورد في الأثر: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، وجاء أيضاً: «يد الله مع الجماعة»، وما ناظر ذلك من أحاديث تدعو إلى لزوم الجماعة والعمل والتعاون معها والإندكاك بها.

إنّ رسالة هذا الكتاب -كما أوضحنا في الصفحة الأُولى منه- هي الفرز بين (الإمّعات) والتي تعني مجاراة الجماعة حتى ولو كانت على الباطل، وبين (المعيّات) التي تنتسب إلى الجماعة إذا تحقق أنّها على الحقّ، وذكرنا أنّ التغريد خارج السرب فيه نظرتان: الأُولى سلبية مرفوضة خاصّة عندما تكون الجماعة صالحةً والسربُ نجيباً.. فالابتعاد عن الجماعة هنا إضعاف لها وتبديد لقوّتها، فلا يصحّ الانسلاخ عنها، بل يجب دعمها ورفدها وتقوية شوكتها، يقول الشاعر:

رأيُ الجماعة لا تشقى البلادُ به   رغم الخلاف ورأيُ الفرد يُشقيها

والثانية: إيجابية، وهي اعتزال الجماعة الفاسدة المُفسدة، ورفض اتباعها أو الانقياد لمطامعها من غير سؤال.. وبهذا يكون التغريد خارج السرب حينئذ إبداعاً وتجديداً واعتزازاً بمواهب الشخصية وإثراءً للحياة التي لا يثريها النسخ المكرورة والتجارب الاجترارية.. وبالنتيجة، فليس كلّ انضمام وانتساب وانتماء للجماعة (نعمة)، وليس كلّ ابتعاد واعتزال وانفصال وانسلاخ عنها (نقمة).

إنّ منطق:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم    في النائبات على ما قال بُرهانا

ومنطق:

وما أنا إلّا من غزيّة إنْ غَوَت    غَوَيْتُ وإن تَرشُدْ غزيَةُ أرْشُدِ

ومنطق:

«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»..

كلّ ذلك فيه رائحة التعصُّب المنتنة، وهو من رواسب الجاهلية التي تدعو أبناءها إلى أن يكونوا (إمّعات) تساير القطيع ولا تشذّ في حركتها عنه.

 

بركات ومنافع المعيّة الصالحة:

حتى الآن، كان ذلك تبياناً لمثالب الإمّعيّة ومساوئها، بل ومخاطرها أيضاً، وقد حان الوقت للكشف عن إيجابيات وفوائد المعيّة الصالحة التي يمكن أن نؤشر على بعضها من خلال:

 

1- المعيّة الصالحة.. حسنُ المعاشرة:

كلُّ شكل لشكله ألف، ولا يصحب الأبرار -كما في الأثر- إلّا نظراؤهم، ولا يصنع مجتمع الصلاح إلّا الصالحين الذين تنعكس صحبتهم على بعضهم البعض، وعلى الجوّ المحيط بهم: صحّة نفسيّة، وعلائق بينية متينة، وتعاوناً وتنافساً في الخيرات، والإنجازات التي تتسم بروح الإيثار وروحية فريق العمل الذي ليس المهم فيه مَنْ (يسجّل الهدف) وإنما مَنْ يصنعه حتى لو سدّده أو سجّله أخوه، في الرواية عن الإمام عليّ 7: «الأصدقاء نفسٌ واحدة في جسوم متفرقة»[4]!

 

2- المعيّة الصالحة.. التعامل الصادق:

أكثر ما يُكدِّر صفو العلائق بين الناس، الغش والكذب والخداع والتلاعب بالألفاظ والمشاعر، والتقلُّب أو التذبذب في المواقف.. أمّا حينما يكون الاختيار سليماً والصحبة صالحة، فإنّ معنى الصدق يشدّ البناء ويرصّه، إذ ليس أقرّ لعين أحدنا من أن يسمع الصدق، ويرى الصدق، ويلمس الصدق، ويقرأ الصدق، ويتعامل مع الصادقين، ذلك أنّ الصدق: روح الكلام، وكمال النبل، وأخو العدل، وهو عزٌّ ولسانُ الحقّ، وخير القول، ولا تجد هذه المعاني مجتمعة أو بعضها إلّا في معيّة الصالحين الصادقين.

 

 

3- الصحبة الصالحة.. عونٌ على طاعة الله تعالى:

في الخبر عن الإمام عليّ 7: «المُعين على الطاعة خيرُ الأصحاب»[5]، فما بالك إذا إزداد عدد المعينين والمساعدين على طاعة الله، والمرغّبين بثوابه، والعاملين الصالحات من أجل نفع وسعادة الآخرين.. عندها تتحوّل الجنّة السماوية إلى جنّة أرضية، ويتحوّل إنسان المعيّة الصالحة إلى (عامل) من عمّال الله، و(جندي) من جنود الله، وربّما إلى (مَلَك) من ملائكة الله.

عن أمير المؤمنين علي 7: «خير الإخوان أعونهم على الخير، وأعملهم بالبرّ، وأرفَقُهم بالمُصاحب»[6]!!

 

4- المعيّة الصالحة.. جوّ إيماني:

انضمام الصالح إلى الصالح يحيل المعيّة أو الصحبة أو الرفقة إلى جوّ إيماني عاطر، يعبق بالصفاء، وترفرف عليه أجنحة المودّة، ويحفل بالخير، ويعمر بالإيمان، ويفوح بالتوبة والاستغفار.

عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7: «إصحب مَنْ تتزيَّن به، ولا تصحب مَنْ يتزيَّن بك»[7]، أي لابدّ من تفاعل ومفاعلة كيميائية بين مؤمنين وعاملين، وأخوين صالحين حتى تزدهر شجرة الصلاح وتثمر بالفلاح والنجاح.

صحبة الصالح تزيدك صلاحاً، وتحسر الشرّ والقبح عن ساحتك، ولذلك يجب الاستماع إلى نصيحة الشاعر المخلص، حيث يقول:

صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته

فالطبعُ مكتَسبٌ من كلّ مصحوبِ

كـــالــــريح آخــذةٌ مـمـا تـمـرُّ بــه

نتناً من النتن أو طيباً من الطــــيبِ

 

 

5- المعيّة الصالحة.. مرآة كاشفة:

كما هي الحاجة إلى المرآة الطبيعية (المادّية) لنرى على صفحتها عيوبنا ونقرأ محاسننا الظاهرية، كذلك هي الحاجة إلى المرآة الإخوانية، لنتبيّن من خلالها عيوبنا ومحاسننا الداخلية، وهذا هو مغزى «المؤمن مرآةُ أخيه المؤمن»[8].

وإذا كنّا نتقبّل من المرآة المادية صراحتها التامّة، ونقدها المخلص الصريح، فما أجدر أن نتقبّل من إخواننا مكاشفاتهم وعتابهم ومواعظهم: «أحبّ إخواني مَنْ أهدى إليَّ عيوبي.. رحم الله مَنْ أهدى إليَّ عيوبي»[9]!

الصحبة أو المعيّة الصالحة ممحاة جيّدة لمحو أخطائنا وتجنُّب سلبياتنا، و(صابون) من نوعية ممتازة لغسل أوساخنا وقذاراتنا، هي أشبه ما تكون بـ(التحديث) (Updating) في برامج الكمبيوتر.. نحتاجها دائماً!

 

6- المعيّة الصالحة.. تمحّض وإخلاص:

يندر في محيط التعاملات الاجتماعية الإخلاص وصفاء النيّة، ورجاء الخير للآخر، إلّا أنّك تجده متوفراً في البيئة الصالحة بين المتوائمين روحياً المنسجمين عملياً، فإذا طلبت من أخ ثقة، نصيحة أو مشورة، فإنّه يمحضك إيّاها، أي يقدّمها لك على طبق من الإخلاص مشفوعة بحبه واحترامه، ولذلك قيل: «أكثر الصلاح والصواب في صحبة أولي النُهى والألباب»[10]، أي العُقلاء الحُلماء والحُكماء، ولا يكون ذلك متاحاً إلّا في الأوساط النظيفة الشريفة العفيفة.

 

7- المعيّة الصالحة.. اكتساب لمزيد من العلم والمعرفة:

صحبة أو معيّة الصالحين كلّها خير وبركة، وخير ما فيها أو ما يقتطف من شجرتها العامرة، اكتساب العلم والمعارف، والأخلاق الحسنة.. فالصاحب الصالح -فرداً كان أو جماعة- لا يبخل على صاحبه بما لديه من علم وخبرة وتجربة، ولهذا دعا الإمام عليّ 7 إلى مصاحبة الحكماء (أهل الحكمة والصواب) ومجالسة الحلماء (الذين يمسكون أعصابهم عند الغضب)، معتبراً ذلك بمثابة السُكنى في الجنّة: «صاحب العقلاء، وجالس العلماء، وأغلب الهوى ترافق الملأ الأعلى»[11]، أي إذا فعلت ذلك كنت في معيّة الملائكة.

وعنه 7: «صُحبة الوَليِّ اللَّبيب (العاقل) حياةُ الرُّوح»[12]، وعنه كذلك: «عجبت لمن يرغب في التكثر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء (العقلاء) الأتقياء، الذين يَغنم فضائلهم، وتهذبه علومهم، وتزيّنه صُحبتهم»[13]!

 

8- المعيّة الصالحة.. نصرةٌ وانتصار:

المؤمن للمؤمن، والصالح للصالح كالبنيان المرصوص يشدّ بعضهم بعضاً، فهو يعمل جاهداً على سلامة العلاقة التي تربطه بأخيه، وعلى توطيدها وتعزيزها بالبرّ والمودّة والتواصي بالحقّ وبالصبر والمرحمة، وبالتناصح والتباذل والتعاون.

 ولا تجد في المعية الصالحة -إلّا حالات شاذة نادرة- طعناً في الظهر، أو غدراً أو خيانة، ذلك أنّ الصالح يرى أنّ أيّ عدوان على أخيه الصالح إعتداء عليه شخصيّاً، لذا تراه ينبري لنصرته والدفاع عنه حاضراً وغائباً.. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض يتناصحون في العيب ويتحافظون في الغيب.

 

9- المعيّة الصالحة.. سمعةٌ طيّبة وصيت حسن:

"قُلْ لي مَنْ تصاحب أقل لك مَنْ أنت" تلك قاعدة تصحّ وتطبّق على كلّ اجتماع لصالحين أو أكثر، والفرق واضح لا يحتاج إلى كثير من الأدلة والشواهد على أنّ مَنْ يصاحب الأبرار والأخيار يكتسب صفة البرّ والخيرية، على طريقة "وكلُّ مقارن بالمقارن يقتدي"، وهذا هو أحد أهم مكاسب وثمار معاشرة الطيّبين المعروفين بين الناس بصفاتهم الحسنة، حتى إذا أشاروا إليهم بالبنان حُسبت أو عُددت منهم.

 

 

10- المعيّة الصالحة.. شفاعة:

لا تقتصر منافع ومكاسب وفضائل المعيّة الصالحة على حدود المساحة الدنيوية فقط، وهي بالتأكيد أكثر مما ذكرنا -وإنّما تمتد وتتسع إلى وقت الحاجة الماسّة إليها- حتى إذا أذن لصالح من الصالحين بالشفاعة، وكان من أهل الجنّة، فإنّه يشفع لذويه وأصحابه وأقرانه، للذين كان لهم فضل في الدنيا عليه.

ورد في بعض الأخبار «إنّ في المؤمنين مَنْ يشفع في مثل ربيعة ومضر»[14]، وهي قبيلتان كبيرتان.

 

11- المعيّة الصالحة.. بيتٌ في الجنّة:

وأعظم المكاسب كلّها على الإطلاق أن تقود صحبة الصالحين ومعيّتهم إلى جنّة النعيم ودار الخلود.. ففي الخبر عن الإمام عليّ بن موسى الرضا 7: «مَنْ استفاد أخاً في الله، استفاد بيتاً في الجنّة»[15].. وليس فوق ذلك فضل ولا مكسب أعلى، سواء أكانت لبنات ذلك البيت الجنتيّ مصنوعة من أخلاق فاضلة اكتسبها، وأعمال صالحة تعلّمها، وعلوم نافعة أخذها وعلَّمها، أو بما يشهدون له عند الله بالصلاح، أو بما يشفعون له عند ربّهم يوم لا ينفع مال ولا بنون.

 

تنويــه:

لقد ناقشنا في كتابنا (مجالس الشباب) كلّا النوعين من المجالس: الصالحة والطالحة، وقد شرحنا بالتفصيل مردودات كلّ من المجلسين بتفريعاتهما المتعددة، وبيّنا هناك أنّ (المعيّة) في مجالس الصلاح تعمّ بالخير على جلسائها، كما أنّ (المعيّة) في مجالس الانحراف والفساد تعمّ بشرورها على جلسائها، ولذا ندعو قُرّاء هذا الكتاب الرجوع إلى (مجالس الشباب) لأنّنا نعتبر هذا يكمّل ذاك ويعضده ويتظافر معه، ولأنّنا لا نريد أن نعيد ما ذكرناه هناك، نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الكتاب الذي يُطلب من المؤسسة المباركة (مؤسسة البلاغ).

 

معيّة الله سبحانه وتعالى:

أدرج الله تعالى نفسه في معيّة الصالحين في أكثر من مكان في الكتاب الكريم، لكنّ معيّة الله عزَّوجلَّ أوسع من أن تدرج في معيّة واحدة بعينها، ولذا يجب أن ننظر إليها بعين الاستقلال والإجلال عن سائر المعيّات المتفرّعة أو المشتقّة منها، نظراً لفرادتها وعلوّها، وكثافة المعيّات الربّانية الداخلة والمتراكبة فيها.

فإذا كان الله معك فمن عليك.. وإذا كان عليك فمن معك؟!

لقد استشعر النبيّ 6 وعاش هذه المعيّة طوال حياته الزاخرة بالمواقف الصعبة والأحداث الجليلة، وأشار إليها 6 في الغار، إذ كان ثاني اثنين، وكانت قريش قد عزمت على قتله فأنجاه الله تعالى بسبل وأسلحة لا تخطر على بال..

وعندما وجد موسى 7 وهارون 7 صعوبة في دعوة فرعون إلى عبادة الله الواحد الأحد حين خاطبهما تعالى: ﴿اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى﴾ (طه/ 43)، قالا: ﴿رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى﴾ (طه/ 45)، فماذا كان جواب القدرة المطلقة؟ ﴿قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى﴾ (طه/ 46).

وكان -جلَّ جلاله- مع إبراهيم 7 حينما ألقاه نمرود في النار، فعاش السّلام وهو في قلبها المضطرم، لأنّ الله معه.

وكان -سبحانه- مع موسى 7 وبني إسرائيل في البحر لينقذهم من فرعون وجنوده ويغرق فرعون وجنوده..

وكان -عزَّ وجلَّ- مع يوسف 7 في رحلة النفي والإبعاد عن أبيه، وكان معه في السجن.. يعيش القرب من الله وإن عاش البُعد عن الأهل والحياة.

وكان -تعالى- مع مريم 7 مدافعاً ومحامياً، إذ جابهها قومها بالإفك والافتراء والبهتان العظيم.

وكان -تبارك وتعالى- مع ابنها عيسى 7 يوم أراد أعداؤه صلبه، فرفعه إليه..

وكان -جلَّ شأنه- مع أيوب 7 في رحلة المرض الطويل والمعاناة القاسية، حتى إذا مرّت فترة الاختبار بنجاح كان معه في رحلة الشفاء واليسر والنعمة والعافية.

وكان -تقدّست أسماؤه- مع يونس 7 في بطن الحوت سمعه يناديه في الظلمات، فاستجاب له ونجّاه.

وليس لله العليّ الأعلى -الذي ليس كمثله شيء- مكان.. ومعيّته، ولطفه، ورحمته، ونصره، وتأييده، وتوفيقه، وهدايته.

(معيّته) حضوره الدائم في كلّ (عسر) و(شدّة) و(محنة) و(بلاء) و(اضطرار).. كما إنّ معيّته في كلّ يُسر وخير وعافية.

كُن معه.. كوني معه.. وستريان كيف سيكون معكما في ما يقارب ذلك كلّه!!

 

- وَآخِرُ دَعْوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ -


[1]- هذا مثل قرآني يضرب بالسفاهة عن امرأة يقال أنّ اسمها (رايطة) كانت هي وعاملاتها يغزلن الصوف طوال النهار، حتى إذا انقضى النهار، عمدن إلى حلّ وفك ما غزلنه، فضرب ذلك بخفة العقل وتضييع الجهود.

[2]- الترغيب والترهيب، 3/241.

[3]- معاني الأخبار، ص266.

[4]- غرر الحكم، 2059.

[5]- ن. م، ص416.

[6]- الجامع الصغير، 1/1917.

[7]- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج73، ص267.

[8]- أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود بلفظ: "المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن"، وقال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 6656 في صحيح الجامع.

[9]- الاختصاص، ص240، أو تحف العقول، الحرّاني، ص340.

[10]- محمّدي الري شهري، ميزان الحكمة، ج5، ص301، نقلاً عن غُرَر الحِكَم ودُرَر الكلم.

[11]- غُرر الحكم ودُرر الكلم، ص420.

[12]- ن. م، ص420.

[13]- ميزان الحكمة، المجلد الخامس، باب الصديق، ح10248.

[14]- بحار الأنوار، ج8، ص38.

[15]- بحار الأنوار، ج14، ص278. موسوعة كلمات الإمام الجواد 7، ج2، ص352.

ارسال التعليق

Top