◄شرع الله لعباده في الإسلام الذي ارتضاه ديناً للعالمين عبادات تهذب النفس، وترقي الروح، وتزكي الفطرة. فالصلاة مجال يتسامى فيه المخلوق ليدخل في مناجاة مع الخالق، والزكاة طهارة للنفس من نزعات الشح والأثرة وحب الذات، والحج هجرة إلى الله ورسوله (ص)، والصيام في هذا المجال واسع الأثر؛ ففيه تتقدم مطالب الروح على مطالب البدن، وصدق الله إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)، والتقوى في هذه الآية تأتي بمعناها الشامل، الذي يعني اكتساب كلّ الخيرات، والترقي الروحي والمعنوي. لقد اختار الله لعباده ديناً قيماً، يرعى كيان المسلم، بدنه وروحه، ويرقي الأخلاق، ويعلي جانبها، تشهد لهذا آيات كريمة منها قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة/ 10). وقوله عزّ وجلّ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ* لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة/ 197-198). وعندها تشيع المحبة والوداعة والصفاء في أجواء النفس، لتنسكب في مجتمعها أخوة ومودة وإخلاصاً.
وهكذا يرتفع هذا الجو الروحي اللذيذ بإنسانية الإنسان، ويشعرها بمسؤوليتها مع المعاني الطيبة التي يعيشها هذا الجو الروحي في نفوس المؤمنين. وحقيقة أنّ "الصيام جُنّة" كما جاء في الحديث الشريف أي وقاية للفرد ووقاية للمجتمع وتربية من الله لعباده المؤمنين. ففي الصوم يلتقي الإنسان بربه فتتلاشى إرادته وتذوب إزاء إرادة الله سبحانه ولكنها لا تذوب لتموت بل لتحيا، ولتعود – بإيمانها وخضوعها لخالقها – أقوى ما تكون على مواجهة الأحداث في ميادين الصراع، ولتحقق في هذا التلاشي، الذي هو مثال العبودية الحقة لله، مبدأ قوة الإنسان ونقطة الانطلاق لحرّيته، لأنّ الإخلاص لله في العبادة وإطاعته في ما يأمر به وينهى عنه، يمثل في جوهره وحقيقته التحرر من الخضوع لأيّة قوة – مهما كانت – وراء قوة الله.
وهذا هو ما تعبر الآية الكريمة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5). وبذلك كانت العبادة وكان الصوم، وسيلة عملية لتحرر الإنسان من عبوديته لأخيه الإنسان، ومن عبوديته لعادته وشهوته. ففي الصوم حدّ من طغيان الجسم على الروح، والمادية على الإنسانية والعبودية على الحرية، ورياضة للإنسان.. أن يقول: لا، عندما تدهمه شهوته إلى الأكل أو الشرب أو الاستمتاع باللذات، أو تدعوه عادته إلى ذلك.. رمضان هو نعم الضيف ولعلّ شهراً كرمضان بعظمته وخيراته لفرصة كبيرة تتطلب من العاقل أن يستعد له قبل هلاله وتشريفه، فنعم الضيف هو.. يستحق شحذاً للهمم فهو الذي خصّصه المولى بقوله في الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به". ومن مظاهر الاستعداد للشهر الكريم حسن التعرف على الله ومعرفته حقّ المعرفة، وعقد النية وتجديدها باستمرار لله وحده لا شريك له في كلّ الأعمال صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها. فالقلب الذي يعرف صاحبهُ الله هو قلبُ يحمل نوراً يشع به عليه، ويدفعه لكلّ خير وفائدة.. فصلاح قلب العبد يجعل الصلاح العام ثمرة حتمية لسائر جسده، فتتجمل الأخلاق وتنهض السلوكيات فيكون المرء مميزاً متميزاً. علينا أن نسارع إلى التوبة وطلب المغفرة من الله ونسأله أن يتوب علينا توبة نصوحاً، وأن يلحقنا بركب أصحاب الهمم المخلصين العاملين لدينه المحبين لأوليائه المتعاونين على البر والتقوى ونشر الخير للناس كافة، الشرفاء المخلصين لدينهم والمحبين لأوطانهم حباً هو في حقيقته أحب إليهم من أنفسهم. وأسوتنا في ذلك نبينا وقدوتنا سيدنا محمّد (ص) الذي كان يستغفر ويتوب إلى ربه وخالقه سبعين أو مائة مرّة في يومه.. علينا أيضاً لزوم الإستقامة، فاستقامة النفس تثمر سمو الروح، قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112).
إنّ رمضان شهر القرآن وشهر المواءمة بين الروح والجسد؛ وجميل بالمسلمين أن يقبلوا على القرآن وأن ينهلوا من الخير والبركة في رمضان، ويتعرضوا لرحمة الله ورضوانه بالتسابق إلى طاعته فهو موسم عبادة وصفاء، فلا تجعلوه موسم ترف في الطعام والشراب وإتلاف للأموال. نسأل الله أن يفيض على المسلمين من بركاته، وأن يعمهم بفضله ونعمته ويمنحهم تأييده، ويرفع الضر عنهم، ويجمعهم على التقوى.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق