د. فوزية الدريع
تَحدثنا في الجزء الاول من هذا الموضوع عن ضرورة البوح لشخص يحمل مواصفات الثقة. والدراسات تثبت أن أكثر شخص يمكن أن تُخبره بسرك، ما يُقوّي العلاقة بينكما بشكل جيِّد، هو توأم روحك.
إنّ كثيراً من العلاقات الحميمة بين الشريكين، حين يكون فيها بوح تصبح أقوى. على العكس حين تكون هناك أسرار مُخفاة بين الزوجين، فهذا يعني أن شيئاً ما بينهما يكون فيه حاجز. بالطبع، فإن شريك حياتنا الذي سنبوح له بسرٍّ، يجب أصلاً أن يكون مدروساً ومؤهَّلاً للقبول والمساندة وعدم الفضح، وإلا فإنّ الدمار يكون أقوى.
ومن المشاكل الخطيرة في حكاية البوح بالأسرار، ذاك الخوف من كون البوح لا يريحك، بل يزيد قلقك ويُدخلك في متاهة: لماذا قلت؟ ماذا لو انكشف سرك؟ وهذا يزيد القلق كثيراً ولعل نقطة أخرى في مسألة البوح تكون قاتلة وهي لو بُحت بأمر يخص إنساناً ما وشعرت بالذنب. ومن الأمور التي وجدتها تتكرر في مهنتي أن يبوح ابن أو بنت بأن واحداً من أفراد العائلة تحرش به جنسياً. وهذا البوح لأحد الأقرباء يجعله يؤذي الآخر بأي طريقة، مثل فضحه. ولكن، أحياناً، الإنسان أمامه ميخران: إما سلامته أو سلامة غيره. وعموماً، إن كان من بحت له بسرك قد آذاك، ففي أسوأ تقدير أنت تعرف أنّ هذا الإنسان ليس صديقاً ولا عزيزاً، فيكون أمر العلاقة معه قد انتهى.
وأحياناً، البوح يكون مثل هدية للآخر تقول له: "أخبرك لأنني أحبك وأثق بك". إن أسرارنا تريد أن تخرج من صدورنا، ربما رغبة في الحصول على محبة من بُحنا له.
إنّ البوح حاجة. لكن، حسب ما أرى من الناس الذين يبوحون لي، فإنّ البوح في حد ذاته فيه راحة. ومشاكل القراء، على سبيل المثال، هي بوح بِسر، والراحة بإطلاق السر تفوق أحياناً البحث عن علاج أو نصيحة. فمن المتعب أن يبقى صدرك حاملاً كل هذا الألم. ومعظم الذي يمكن أن نطلق عليه وصف "أسرار" ليس له علاج كثير. ومعظمه بوح يتعلق بعنف وقع أثناء الطفولة.
ما يلي بعض من هذا البوح الروتيني، الذي أتلقاه في رسائل قرائي أو من زوار عيادتي: تحرش جنسي من قريب مثل أب، أخ، عم، عنف بدني، مثل ضرب مبرح من أب، أم، تحطيم نفسي في الطفولة، مثل تحقير بسبب الشكل أو القدرات، وغيرها.
كل هذه الصور من التعذيب والاعتداء حصلت أثناء الطفولة، أو في عمر لا يستطيع فيه الشخص عمل شيء. وحين قام الشخص بالبوح فإنّه لا يريد عقاب الآخر. وبكل صراحة، كل علاجات الدنيا لا يمكنها سوى إحداث بعض التخفيف وليس محو الأذى أو العلاج التام.
فلماذا يقولون؟ لماذا يبوحون؟ لأنّ البوح راحة، ولهذا فهو ضروري.
لدي قناعة قديمة، كانت ومازالت موجودة، وهي أنّ البوح يخلق توازناً نفسياً. ومن نعم الله علينا، كفئة تمتهن الكتابة، أننا بشكل مباشر أو غير مباشر نملك مهنة التنفيس. ولعل المُخرج الراحل يوسف شاهين في أفلامه هو "بطل التنفيس العربي" عن أسراره وحكاياته. ولكن الأغلبية خلال مقال أو قصة أو رأي، ينفّسون عن أنفسهم، ويحصلون على الحرية والراحة المنشودتين. لذلك، أنا من الفئة التي تؤمن بأنّ العلاج بالكتابة هو فعلياً راحة وأمان. لذا، اجلس واكتب حكايتك، أو كرر كتابة سرك واحرقه، أو احتفظ به في مكان آمن، وساعتها ستجد بعض الراحة. ولكن لا تحتفظ بشيء تخاف أن يعرفه أحد. أما إن كان حيلة التنفيس بالكتابة لا تفيد، فالمعالجون النفسيون ما وُجدوا إلا لأجل البوح.
ارسال التعليق