• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد/ ج(1)

مركز نون للتأليف والترجمة

بناء المجتمع العفيف من خلال بناء الفرد/ ج(1)

 ◄للحياء مراتب: الحياء من الله تعالى، الحياء من النفس، والحياء من الناس.

 

الحياء من الناس:

يُمثِّل الحياء من الناس ركيزة أساساً للحياء من النفس والحياء من الله تعالى، فإذا ما استحى الإنسان من الآخرين امتنع عن فعل القبيح وإتيان النواهي واقتراف الرذائل. وهذا مدخل ومقدّمة للوصول إلى استقباح الفعل لدى النفس فيستحي منها، وإذا ما تحوّل هذا السلوك إلى عادة متأصِّلة وممدوحة لديه وتحوّلت إلى ملكة اتّجهت نحو الفضيلة واكتست ثوب الإيمان، فقد جاء عن الإمام عليّ (ع) قوله: "حياء الرجل من نفسه ثمرة الإيمان"، وينتج عندها حياءٌ من الله تعالى وهو من الإيمان.

ثمّ إنّه تختلف درجات الحياء لدى الإنسان حسب المرتبة والمنزلة التي يمتلكها، والصفات الخلقيّة التي يتحلّى بها، فقد يكون الحياء من الآخر تبعاً لمنزلته العلميّة أو مرتبته لدى الناس، كما لو كان عالماً أو مسؤولاً أو ما شابه. فقد يفعل الإنسان القبيح في خلوته لعدم وجود من يراه، لكن يتجنّبها أمام العالِم أو الرئيس الفلانيّ، ويُحاول أن يُظهر نفسه على أجمل صورة وأفضل صفات، وهذا عائد إلى مقدرة الآخر على لومه، لعلمه بأنّ الآخر هو الأكمل منه في الصفات فيفهم مساوئ وقبح الفعل، عندها يكون اللوم أشدّ وآلم، وبالتالي انحطاط منزلته عنده، وهذا ما يُخالف الطبع والميل البشريّ.

ولهذا فإنّ الإنسان يستحيي من الناس ولا يُحبّ أن ينتقصه أحد، ولهذا جاءت الروايات لتؤكِّد ضرورة الحياء من الله تعالى كما يستحيي الشخص من الرجل الصالح من قومه، فعن الرسول (ص): "استحيِ من الله استيحاءك من صالحي جيرانك فإنّ فيها زيادة اليقين". وقد يصل المرء من خلال سوء فعله إلى درجة لا يستحيي عندها حتى من الناس في العلانية، وعندها قد يفعل أيّ قبيح ولا يتورّع عن أيّ ذنب، عندها يصحّ فيه القول: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.

وعن الإمام عليّ (ع): "ما لم يستحيِ من الناس لم يستحيِ من الله تعالى"، لأنّ الحياء من الناس هو الشكل العلنيّ، والحياء من الله هو الشكل السريّ. وجاء التأكيد من الرسول (ص) على أهمّية الحياء في العلن لأنّه يجرّ إلى الحياء في السرّ: "من لم يستحيِ من الله في العلانية، لم يستحيِ من الله في السرّ".

 

 

العلاقة بين الحياء من النفس والحياء من الله تعالى:

قد يكون الحياء من النفس في العلانية، كما قد يكون في الخلوة والسرّ، لأنّها حالة انزجار داخليّة تحثّ المرء على تلك القبيح لكونه قبيحاً، يستقبحه العقل الإنسانيّ ويتنافى مع سلوكه، ولذا فهو يُخالف مروءة الإنسان، وصاحب المروءة والعاقل لا ينحاز عن قواعد العقل، ولذلك فهو يترك كلّ فعل يمسُّ بها، ومن هذه الجهة لا يكون الفعل ناتجاً عن الإيمان بالله تعالى أو الإحساس بالرقابة الإلهيّة. نعم هو مقدّمة ودافع إليه، وهو حسنٌ على كلّ حال وإليه أشار الرسول بقوله: "الحياء خير كلّه".

فالحياء من الله يحتاج إلى برنامج تدريبيّ يبدأ من الحياء من النفس، إذ كلّما استطاع الإنسان أن يفوز بالحياء من نفسه، وهو حياء في السرّ والخلوة، نجح حتماً في الحياء من الله الذي هو حياءٌ في السر أيضاً. ويحتاج الأمر إلى مراقبة شديدة للنفس ومحاسبتها، كي لا تقع في المعاصي والأفعال القبيحة التي تتنافى مع العقل والشرع. ومن هنا  كان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. وقد أشارت الروايات إلى أنّ هذا النوع من الحياء يمحو الخطايا والذنوب، فقد جاء عن الإمام عليّ (ع): "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا، وأيضاً هو أفضل الحياء".

فملاحظة وشعور الإنسان بكون الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، وأنّه يقهر العباد بقدرته، حيٌّ قيّوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وغيرها من الآيات والمطالب التي تصف الله تعالى بأنّه حاضر غير غائب، كلّ هذا مساعد إلى إيجاد ملكة لدى الإنسان تُنمّي لديه الشعور برقابة الله تعالى، فما يكون منه إلّا الحياء منه تعالى في السر كما يستحيي منه ويخافه في العلن.

 

الحثُّ على عفّة البطن والفرج ومصاديقهما:

 

كسر شهوتي البطن والفرج:

تُعتبر عفّة البطن والفرج والسيطرة عليهما من أفضل العبادات، فقد جاء عن الإمام أبي جعفر (ع): "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"، بل لم يُعبد الله بأفضل من هذه العفّة، كما جاء عنه (ع): "ما من عبادة أفضل عند الله من عفّة بطن وفرج".

فقد اهتمّ الإسلام كثيراً بهذه المسألة، وجعل غيرة الرجل على عرضه علامة على شخصيّته المتّزنة والمؤمنة. وقد جُعلتنا أفضل عبادة، لأنّ الذنوب تنشط عندما تكون البطن مليئة، فقد جاء عن الرسول الأكرم (ص): "أكثر ما تلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج".

فشهوة البطن لا تسمح للإنسان في التفكير المشروع والمنظّم لتحصيل الغذاء ورعاية حقوق الآخرين، وتجعله حاضراً للقيام بأيِّ فعل حتى اقتراف الخطايا والذنوب في سبيل إرضائها، أضف إلى أنّها مصدر وسبب للكثير من الأمراض الجسمية والأخلاقية إلى درجة تُصبح معها معبوده فتتحكّم في جميع سلوكياته.

فقد جاء عن الرسول الأكرم (ص): "من وقي شر بطنه ولسانه وفرجه فقد وُقي من جميع البلايا"، وتهذيب هاتين الشهوتين يوجب غفران الذنوب كما ورد عن الرسول (ص): "أيّما امرىء اشتهى شهوة فردَّ شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له".

 

كيفيّة التحرُّر من أسر شهوة البطن:

هناك مجموعة من الإرشادات تُساعد على التحرُّر من شهوة البطن نورد منها ما يلي:

1-  أن يكون الطعام حلالاً:

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة/ 172). يُقرن الله تعالى أكل الطيّبات بوجوب الشكر له تعالى.

ويذكر في آية أخرى عدم تحريم ما أحلّ الله للناس، للتأكيد على حلّيته للمؤمنين. ونهى تعالى عن الاعتداء وتجاوز حقوق الآخرين، بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة/ 87).

والمراد من الطعام الحلال هنا هو كلّ ما حاز على هذه الشروط:

أ‌-       ما حصل من كدّ وكسب الإنسان وتعبه، فقد جاء في الرواية أنّ الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله.

ب‌- أن يكون المال قد أُخرجت الحقوق منه، مثل الزكاة والخمس.

ت‌- أن يكون الطعام حائزاً على الوجه الشرعي، كأن يكون مذبوحاً على الطريقة الشرعيّة. إذا كان لحماً..

ث‌- أن يكون طاهراً من الخبث والنجاسات، وكلّ ذلك مذكور بشكل مفصّل في أبواب الفقه.

2-  الأكل عند الجوع وعدم الإكثار منه:

جاء عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال للحسن (ع): "ألا أُعلمك أربع خصال تستغني بها عن الطبِّ؟ قال: بلى، قال: لا تجلس على الطعام إلّا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلّا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبِّ".

ينبغي للإنسان أن يتدرّب على الإقلال من الطعام شيئاً فشيئاً، وأن يكون تناوله لطعامه بما يرفع به جوعه وأن لا يأكل حتى التخمة فإنها من الشيطان.

والمراد من كسر شهوة البطن، هو اعتدالها، وإليه أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31)، وجاء عن الإمام عليّ (ع): "قلّة الأكل من العفاف وكثرته من الإسراف".

فإذا ما زال الجوع عن الإنسان، ولم يأكل حتى الشبع، تيسّرت له العبادة والفكر والقدرة على العمل، فعن الإمام الصادق (ع): "ليس شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي موروثة لشيئين: قسوة القلب وهيجان الشهوة".

3-  التعوُّد على أخذ الحاجة من الطعام:

جُعل الطعام من أجل رفع الجوع وإزالة التعب والضعف عن الإنسان، ولهذا من المهمّ جدّاً أن يتعوّد الإنسان على تناول الطعام عند حاجته إليه فقط، لا كلّما عرض له أو حصل عليه، وأن لا يتناوله إلّا عند الجوع، جاء في الوسائل عن عليّ بن حديد قال: "قام عيسى بن مريم خطيباً، فقال: يا بني اسرائيل! ولا تأكلوا حتى تجوعوا، وإذا جعتم فكلوا، ولا تشبعوا، فإنّكم إذا شبعتم غلظت رقابكم، وسمنت جنوبكم، ونسيتم ربّكم". ولتكن السياسة والضابطة التي تحكم سلوك الفرد هي استخدام الطعام من أجل البقاء على قيد الحياة لا العكس: "كل لتعش ولا تعش لتأكل"، وعلى هذا النحو كانت سيرة الرسول الأكرم (ص)، فقد جاء عن العيص بن القاسم قال: قُلت للصادق (ع) حديث يُروى عن أبيك (ع) أنّه قال: "ما شبع رسول الله من خبز برّ قطّ، أهو صحيح؟ فقال: لا، ما أكل رسول الله (ص) خبز برّ قطّ ولا شبع من خبز شعير قطّ".

4-  الالتزام بوقت الأكل:

حدّدت الروايات للأكل وقتين لا أكثر أي وجبتين في اليوم الواحد، واحدة في الصباح وأخرى في المساء (وجبتا الفطور والعشاء)، فقد روى أبو سعيد الخدري: "أنّه كان (ص) إذا تغدّى لم يتعشَّ وإذا تعشّى لم يتغدَّ". وقد جاء في الكافي أنّ شهاب بن عبد ربّه قال: "شكوت إلى أبي عبدالله (ع) ما ألقى من الأوجاع والتخم فقال لي: "تغدّ وتعشّ ولا تأكل بينهما شيئاً فإنّ فيه فساد البدن. أما سمعت الله تعالى يقول: (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (مريم/ 62).

كما أنّه يوجد تأكيد على عدم ترك العشاء ولو بشقّ تمرة، فعن الإمام عليّ (ع): "ترك العشاء مهرمة". وقد ورد عن بعض الأهوازيّين عن الإمام الرضا (ع): "قال إنّ في الجسد عرقاً يُقال له العشاء لم يزل يدعو عليه ذلك العرق إلى أن يُصبح يقول: أجاعك الله كما أجعتني أظمأك الله كما أظمأتني فلا يدعن أحدكم العشاء ولو بلقمة من خبز أو شربة ماء". وتدلُّ الأخبار على استحباب تناول طعام العشاء لا سيّما للشيخ فعن أبي عبدالله (ع) قال: "الشيخ لا يدع العشاء ولو بلقمة".

لكن يُكره أن ينام المرء على بطن مليئة بالطعام.

ورد في الأحاديث الشريفة كراهيّة الامتلاء من الطعام سواء كان ليلاً أم نهاراً.

فقد ورد عن أبي عبدالله الصادق (ع) قوله: "كثرة الأكل مكروه".

وكذا عنه (ع): "ما من شيء أبغض إلى الله من بطن مملوء".

بل إنّ البطن المملوء يمنع الإنسان من الكمالات المعنويّة والدخول في ملكوت السماوات، كما جاء عن رسول الله (ص): "لا يدخل ملكوت السماوات قلب من ملأ بطنه".

5-  أن لا يكون الطعام أكبر همِّ الإنسان:

أن لا يكون همّه الدائم أكل اللحم والطعام اللذيذ، فإنّ كثرة أكل اللحم تورث قساوة القلب. كما أنّ تركه أربعين يوماً يُسبِّب سوء الخلق لأنّه سيّد الطعام فلا ينبغي تركه. لكن من المهمّ أن يُنظِّم المرء طريقة أكله وأن يتخلّله طعامٌ غيره، لحاجة الجسم إلى هذا التنوُّع.►

 

المصدر: كتاب العفّة والحياء/ سلسلة ريحانة

ارسال التعليق

Top