أ. د. نبيل السمالوطي*
◄أوّلاً: العدل واجتناب الظلم من قِبَل أولياء الأمور وضرورة التزامهم التواضع والخلق الإسلامي. يقول تعالى لرسوله الكريم (ص): (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 215). ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90). وفي باب تحريم الظلم الذي يؤدي إلى خراب الأسر والمجتمعات والدول والعلاقات الاجتماعية، يقول الله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر/ 18). وعن جابر (رض) أن رسول الله (ص) قال: "اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" (رواه مسلم). وواضح هنا أنّ هذا الأساس يوضح أهمية القيادة العادلة في بناء المجتمع الصالح.
ثانياً: طاعة أولياء الأمور في غير معصية: قال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59). وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبيّ (ص) قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (متفق عليه).
ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: واجب على الناس التناصح فيما بينهم وترشيد بعضهم بعضاً بما يتفق مع الشريعة الإسلامية حتىيستقيم الناس في أجسادهم ونفوسهم وعقولهم وعلاقاتهم بشتى صورها وأنواعها، بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الله سبحانه وتعالى. يقول تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104). وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 110). وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199). ويقول تعالى: (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة/ 71). ويقول تعالى في شأن بني إسرائيل وسبب لعنتهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة/ 78-79).
رابعاً: التخلق بالأخلاق الإسلامية: والتي تقتضي من المسلم الإخلاص والتوبة المستمرة والاستغفار والصبر والصدق ومراقبة ربه في كل أعماله وعلاقاته واليقين بالله والتوكل عليه والاستقامة والمجاهدة وبر الوالدين، وصلة الأرحام وستر عورات المسلمين، والبعد عن البخل والشح، واستمرار ذكر الموت وقصر الأجل والتواضع، وخفض الجناح وعدم التكبر، وحسن الخلق والحلم والاناة، والرفق والعفو والإعراض عن الجاهلين، وحفظ السر والوفاء بالعهد وطلاقة الوجه عند اللقاء... إلخ. وواضح أن مجتمعاً هذه سمات أبنائه لابدّ وأن يكون أفضل مجتمع يحقق التكامل والتعاون، ويخلو من المشكلات الاجتماعية والانحرافات بشتى أنواعها. ويذهب العديد من علماء اجتماع اليوم مثل: "روبرت ميرتون" R. Merton أنّ العديد من أشكال الانحراف التي نشاهدها في مجتمعاتنا المعاصرة لا ترجع إلى الأفراد كأفراد، وإنما ترجع إلى طبيعة الثقافة السائدة، وهو رأي يتفق معه فيه عدد كبير من علماء الاجتماع المعاصرين، مثل: "إدوين سوذرلاند" E. Sutherland صاحب كتاب "جرائم الصفوة" في أمريكا White Collar Crimes وهذا يعني أنّ الإنحراف عندما يسود مجتمعاً فإنّ هذا يشير إلى انحراف ثقافة Culture ذلك المجتمع، وثقافة المجتمع الإسلامي – بأسسها سابقة الذكر – ثقافة صحية تؤدي – وقد طبق ذلك تطبيقاً واقعياً – إلى إيجاد مجتمع متكامل متكافل متعاون، وهو ما يفتقده الكثير من مجتمعات البشر اليوم. وبالنسبة للإخلاص وإحضار النية في جميع الأقوال والأعمال والأحوال البارزة والخفية، يقول تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة/ 5). وبالنسبة للتوبة فهي واجبة من كل ذنب، فإذا كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط:
الأوّل: أن يقلع الإنسان عن المعصية تماماً.
الثاني: أن يندم على فعلها.
الثالث: أن يعقد العزم على ألا يعود إليها أبداً.
فإذا كانت المعصية تتعلق بآدمي فيجب إلى جانب الشروط الثلاثة السابقة أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كان قذفاً ونحوه مكنه منه وطلب عفوه وهكذا. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (التحريم/ 8). وقال (ص): "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة" (رواه مسلم).
والمسلم يتخلق بالصبر وعدم الجزع، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا) (آل عمران/ 200). وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155). كذلك فإنّ المسلم يتسم بالصدق، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119). وعن ابن مسعود (رض) عن النبيّ (ص) قال: "إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وإنّ الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" (متفق عليه).
والمسلم يعلم أنّ الله يراقبه ولهذا يحسن كل أعماله ونياته، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران/ 5). وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19). والمؤمن يتقي الله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (الأحزاب/ 70). وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/ 4). والمؤمن متوكل على الله، يقول تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إبراهيم/ 11). وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 3). والمؤمن يسلك السلوك المستقيم في كل سلوكه وعلاقاته وتفكيره لأنّه أُمر بذلك، قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود/ 112). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت/ 30-32). والمؤمن يستبق ويبادر إلى فعل الخيرات، يقول تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة/ 148).
ومن خصائص الشخصية الإسلامية الجهاد، قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحج/ 78). والمؤمن مقتصد في الطاعة فمن رحمة الله بعباده أن رفع المشقة عنهم (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2). وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185). والمؤمن متعاون مع غيره فيما يحقق الصالح العام وليس في الشر والانحراف، يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2). ويقول تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر). والمؤمن يصدق النصيحة لغيره، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10). والمؤمن الحق يستر عوردة أخيه، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ...) (النور/ 19). وقال (ص): "لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" (رواه مسلم).
والمسلم يسعى إلى قضاء حوائج إخوانه المسلمين، يقول تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج/ 77). ويقول (ص): "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (متفق عليه). والمؤمن يسعى بالصلح بين الناس، يقول تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (الأنفال/ 1).
وأكتفي بهذه الخصائص الأساسية التي يتسم بها المسلم في أخلاقه وسلوكه وعلاقاته بالآخرين، يتضح منها كيف أنها قادرة على إقامة مجتمع فاضل – ليس بالمعنى الطوبائي الذي تحدث عنه أفلاطون وكمبانلا وتوماس مور – وإنما بالمعنى الإسلامي الواقعي الذي تحقق في أرض الواقع وكان خير مثال في تاريخ الدنيا بأسرها للمجتمع المتعاون المتكافل المتكامل القوي واستطاع الإسلام بهذه المبادئ أن ينتشر في كل بقاع العالم.
خامساً: التربية الإسلامية الصحيحة: تلك التربية التي تستهدف الحفاظ على الفطرة النقية، فكما يحدثنا رسولنا الكريم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه ينصّرانه أو يهوّدانه أو يمجسانه". ويقول سبحانه وتعالى: (خَلَقْتُ عِبادِيَ حُنَفاءَ فَاحْتَالَتْهُمُ الشَّيِاطِينُ) وهناك مجموعة من الخصائص التي تميز التربية الإسلامية توجزها فيما يلي:
1- التربية الإسلامية تربية تكاملية: حيث لا تركز على أحد جوانب الإنسان، وإنما تعتني بالتنشئة المتكاملة للإنسان جسماً وعقلاً وسلوكاً ووجداناً، وبالعلاقات بين الإنسان وغيره، وبينه وبين ربه. فهي تحرر العقل من الأوهام، وتحرر النفس من العبودية لغير الله، وتحرر الجسم من الوقوع في أسر اللذات والشهوات، وتقيم علاقات بين الناس قوامها الأخوة والمساواة والعدل والحب.
2- التربية الإسلامية تربية متوازية: حيث تحرص على تحقيق التوازن الدقيق المعجز بين مطالب الدنيا ومطالب الدار الآخرة، يقول تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77). وهي ترفض التطرف سواء في الجانب المادي (الشهوات)، أو في الجانب الروحي (الرهبانية).
3- التربية الإسلامية تربية سلوكية وعملية: حيث لا تكتفي بالقول وإنما تركز كذلك على الفعل والسلوك والعمل، ويتضح هذا في أسس الإسلام الخمسة التي تقتضي القول والممارسة وهي: الشهادة بأنّه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة والزكاة والصيام والحج، كما يتضح من أسلوب مخاطبة الله سبحانه للمؤمنين حيث يقرن الإيمان بالعمل الصالح – الذين آمنوا وعملوا الصالحات – ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 35).
4- التربية الإسلامية تجمع بين الفردية والجماعية: فإذا كان كل مسلم مسؤول عن معتقداته وأفكاره وأعماله مسؤولية فردية أمام الله، فإن كل راع مسؤول مسؤولية فردية عن رعيته، والإسلام ينبذ الأنانية ولا يقيم أي وزن للنعرات العرقية أو العنصرية أو الطبقية أو اللونية... ويحث الإنسان على التعاون... وتعاونوا على البر والتقوى، ويقول (ص): "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"، وتقوم جماعية الإسلام استناداً إلى أساسين هما: وحدة الأصل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء/ 1). وكل البشر لآدم وآدم من تراب بالإضافة إلى النفخة الإلهية ووحدة العقيدة وهذا هو ما نادى به كل الرسل (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ) (آل عمران/ 19). (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران/ 85). (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة/ 128). وتؤكد التربية الإسلامية على أهمية القدوة والوسط الاجتماعي في تنشئة الفرد، واهتمت بتكوين العادات الحسنة منذ النشأة الأولى للطفل بمخالطته للنماذج الطيبة، وإبعاده عن قرناء السوء فمثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كبائع المسك ونافخ الكير. واهتمت التربية بالوسط الأسري لأهمية دوره في الحفاظ على نقاء الفطرة الإنسانية.
5- التربية الإسلامية تركِّز على تقوية جانب المراقبة لله: ذلك لأنّه مهما بلغت من قوة القوانين، فلن تكفل المجتمع الصالح، فالفرق بين مراقبة الله والخضوع للقانون، فرق بين الالتزام الداخلي والإلزام الخارجي، والإنسان الذي يراقب ربه فإنّه يراقب الله سبحانه في السر والعلن ذلك أنّه سبحانه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19). وتهتم التربية الإسلامية بإيجاد المراقبة الدائمة لله بحيث نعصمه من الشطط والانحراف.
6- التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان: وتسمو بغرائزه، فالإنسان مسلم بفطرته، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا...) (الأعراف/ 172). ويقول (ص): "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة وإنما أبواه يُهَوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمَجِّسانه" والتربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان لأنّ الإسلام دين الفطرة حيث تتفق كافة تعليماته مع فطرة الإنسان وطبيعة تكوينه الجسمي والروحي والوجداني... إلخ (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا). ويقول (ص): "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وأساس التكليف في الإسلام الاستطاعة فلا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها. ويربي الإسلام الفرد على الاعتدال (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف/ 31)، (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء/ 27)، والإسلام لا يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، لكنه ينظم ويهذب إشباع الإنسان لدوافعه بشكل يتفق مع مبادئ الإسلام أو الشريعة الإسلامية.
7- التربية الإسلامية توجه الإنسان نحو الخير: يقول تعالى مخاطباً نبيه الكريم (ص): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، ويقول تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 110)، والتربية الإسلامية موجهة باستمرار إلى ما فيه خير الفرد دنيوياً (جسمياً وروحياً واجتماعياً)، وفي الآخرة حيث يفوز برضوان الله والجنة. فالإسلام يربي الإنسان على الخلق الفاضل وحسن معاملة الناس وحب الآخرين "ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وتستهدف التربية الإسلامية الحفاظ على مقصود الشرع من حفظ للدين والعقل والعرض والنفس والمال.
8- التربية الإسلامية تربية مستمرة: فهي تستمر مع الإنسان من المهد إلى اللحد، حيث يجب على المسلم التزود باستمرار من العلوم بكافة أنواعها (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، وينبهنا بل يطالبنا القرآن الكريم بإمعان النظر والتأمل والتفكر في مخلوقات الله، لأن أي تفكير صحيح – في النفس أو في التاريخ أو في الكون – سوف يدعم الإيمان الكامل اليقيني بوحدانية الله سبحانه.
9- التربية الإسلامية تتسم بالعالمية والشمول: ينبذ الإسلام التعصب والفروق العرقية والطبقية واللونية ويقيم معياراً واحداً للتمييز بين كل البشر، وهو معيار التقوى والعمل الصالح وفعل الخير. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). والمسلمون متساوون في العبودية المطلقة لله وهم جميعاً إخوة فيما بينهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10)، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، فالمسلمون في كل أنحاء الدنيا، يجمع بينهم عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويجمع بينهم أداء الفرائض واعتناق القيم الإسلامية وأداء السلوك الإسلامي الموحد.
10- التربية الإسلامية محافظة ومجددة: فهي محافظة بما تقوم عليه من مبادئ سماوية خالدة، وتقاليد ثابتة، وقيم أصيلة تمتد بجذورها إلى ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمان. وتعمل التربية الإسلامية على ترسيخ هذه المبادئ في نفوس النشء، وصياغة الشخصية الإسلامية المتكاملة التي تؤمن بربها وبالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشره. غير أنّ التربية الإسلامية ليست جامدة ولا متحجرة فهي تصلح لكل زمان ومكان، والمسلمون تتجدد أحوالهم المعيشية بتغير الأزمنة – مع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم الإسلامية – ولهذا يجب على التربية الإسلامية أن تنقل للنشء كل علوم العصر المادية التي لا تتعارض مع القيم الإسلامية من أجل رفع شأن المسلمين والنهضة المستمرة بالمجتمع الإسلامي والوفاء بالمطالب المتجددة للمسلمين.
هذه هي أهم أهداف وأسس التربية الإسلامية، وهناك مجموعة من الأساليب والسبل التي يحاول بها الإسلام الوصول إلى هذه الأهداف نوجزها فيما يلي:
أوّلاً: أسلوب القدوة الصالحة: فهو أنجح الأساليب في تربية النشء، خاصة في فترة الاكتساب خلال فترة الطفولة المبكرة والمتأخرة، وقد ضرب لنا الرسول (ص) أحسن الأمثلة في القدوة الصالحة بسلوكه وخلقه، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب/ 21)، وشبّه الرسول (ص) الجليس الصالح والجليس السوء ببائع المسك ونافخ الكير. ويجب أن يضرب الآباء والأساتذة الدعاة المثل الصالح حتى يحتذي بهم الأبناء والدارسون والمستمعون. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).
ثانياً: أسلوب الترغيب والترهيب: يعد الثواب والعقاب هو الأسلوب الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية، والذي ثبت صلاحيته في كل زمان ومكان. ويستخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب في حض المؤمنين على فعل الخير والتمسك بمبادئ الشريعة الإسلامية واجتناب الكبائر والفواحش والرذائل وكل ما يقرب إلى النار، فهناك الحدود التي يجب تطبيقها في المجتمع الإسلامي على كل مخالف للشرع، وهناك الثواب الدنيوي والأخروي، كما أن هناك العقاب الدنيوي والأخروي. (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا...) (فصلت/ 30)، الآية. وإذا كان كل بني آدم خطأ، فإن خير الخطائين التوابون كما أخبرنا الرسول (ص).
ثالثاً: أسلوب الموعظة والنصح: يقول تعالى مخاطباً النبيّ (ص): (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/ 125). وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (آل عمران/ 104). وقال (ص): "من دل على خير فعله مثل أجر فاعله" (رواه مسلم). وهذا الأسلوب التربوي من أنجح الأساليب في إقناع الدارسين والمتمعنين وإرشادهم إلى ما فيه رضا الله وفلاحهم في الدنيا والآخرة.
رابعاً: أسلوب الإقناع والاقتناع: يقوم الإسلام على مبدأ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، وقد استخدم القرآن الكريم العديد من أساليب الإعجاز والإقناع العقلي من أجل ترشيد الناس وهدايتهم – منها أسلوب سيدنا إبراهيم مع الذي حاجه في ربه، وأسلوب موسى (ص) مع فرعون... إلخ – ومن خلال الحوار والإقناع والاقتناع – القائم على أساس سليم – تتضح الحقائق ويزداد الناس اقتناعاً بالعقيدة الإسلامية السمحة.
خامساً: أسلوب التعلم بالمحاولة والخطأ: وكان الرسول (ص) يعلم أصحابه بهذا الأسلوب أحياناً، حيث كان يراقبهم أثناء تطبيق تعاليم الإسلام ثمّ يصحح لهم أخطاءهم، حتى يتعلموا من خلال الممارسة والتجربة. ومن أشهر الأدلة على ذلك ما جاء في حديث "المسيء صلاته"، فقد رأينا في هذا الحديث كيف أنّ الأعرابي دخل المسجد فصلى وأخطأ وسلم على الرسول (ص)، فرده الرسول ليصلي، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، وفي الثالثة طلب من الرسول (ص) أن يعلمه (وجود الدافعية في التعلم) فعلمه.
سادساً: التعليم بالأساليب الحسية: كان الرسول (ص) يستخدم الأساليب الحسية – لسهولتها – من أجل شرح الأمور المعنوية، فكان على سبيل المثال يخط خطاً على الرمال وخطين عن يمينه وخطين عن شماله، ثمّ يذكر للصحابة – رضوان الله عليهم – أنّ الخط الوسط يمثل "سبيل الله"، والخطوط الجانبية هي سبل الشيطان، ويتلو قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153).
سابعاً: أسلوب الحوار الموجه: استخدام الرسول (ص) أسلوب الاستجواب والحوار الموجه في تعليم أصحابه – رضوان الله عليهم –، مثال هذا ما فعله (ص) مع معاذ بن جبل.
ثامناً: الأسلوب القصصي: وقد استخدم القرآن الكريم الأسلوب القصصي في عرض وقائع وأحداث التاريخ السابق للنبيّ (ص) لما لهذا الأسلوب من أثر عميق، وإيجابي في نفس الإنسان.
تاسعاً: أسلوب المعرفة النظرية والممارسة العملية: تحتل المعلومات النظرية أهمية كبرى في حد ذاتها، لأنّها تنمي عقل الإنسان وتساعد على تكوين خلفية ثقافية تمكنه من التعامل مع مجتمعه، وتساعده على القيام بدور المواطنة الصالحة. وقد تعالت الصيحات من جانب المربين يتساءلون حول جدوى المعرفة النظرية، وانتقدوا جانباً من التعليم المعاصر لأنّه لفظي نظري، يفتقر إلى مغزاه الوظيفي والتطبيقي والاجتماعي. غير أنّ هذا القول لا يقلل من أهمية المعرفة النظرية لأنها الأصل والأساس في كل التطبيقات العملية والسلوكية. والإسلام يحترم العلم وأهله، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9). (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11). وإذا كان الإسلام يعتني بالعلم النظري فإنّه يركز كذلك على التطبيقات العملية للعلم. وقد استعاذ الرسول (ص) من علم لا ينفع. ويجب على المربين أن يقرنوا العلم بالعمل والنظرية بالتطبيق، فالإيمان بالله ورسوله له تطبيقاته السلوكية. والصلاة والصوم والزكاة والحج تمثل مبادئ شرعية لها تطبيقاتها السلوكية.
وبالإضافة إلى كل ما سبق فالإسلام دين عظيم متكامل يرسم صورة مجتمع فاضل بكافة نظمه السياسية والاقتصادية والعسكرية والتربوية والأسرية... وصدق تعالى إذ يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام/ 38).►
*عميد كلية الدراسات الإنسانية سابقاً وأستاذ الاجتماع بجامعة الأزهر
المصدر: كتاب البناء الاجتماعي للمجتمع الإسلامي
ارسال التعليق