لقد وضع الإسلام منهجاً متكاملاً للتغيير والإصلاح وإعادة البناء، ويشمل هذا المنهج الوسائل والأساليب الآتية:
أ) حل مشاكل المجتمع المادّية.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الإصلاح الاجتماعي).
ت) الدولة والدعوة والمجتمع.
أ) حل مشاكل المجتمع المادّية:
إنّ معظم مشاكل المجتمع تأتي بسبب الفقر والجهل والظلم وغياب الوازع الديني، أو الحاجة المشروعة للإنسان والتي لا تُعالج ولا تُشبع إشباعاً مُستحقّاً، فيلجأ أفراد المجتمع إلى ارتكاب الجريمة والانحراف السلوكي والأخلاقي، والمخالفات القانونية، وإرباك الأمن والنظام، وإحداث المشاكل في الأُسرة والمجتمع والدولة، لذا فإنّ من أولويات الإصلاح الاجتماعي هو حل مشاكل المجتمع: (مشكلة الفقر والبطالة، وتوفير الخدمات، وإقامة العدالة الاجتماعية، ونشر التعليم والثقافة... إلخ).
وكم رَكَّز القرآن على حلِّ هذه المشاكل ووضع الأحكام والقوانين، والهدي الأخلاقي لحلّها ومعالجتها.. لمزيد من الإيضاح نستشهد ببعض الآيات الدالّة على ذلك:
قال تعالى واصفاً المؤمنين الملتزمين بأحكام الشريعة: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الذاريات/ 17-19).
وفي موضع آخر، يصف القرآن المؤمنين الملتزمين بأداء الحقوق المالية والمهتمين بحل مشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج/ 23-25).
ويتحدَّث القرآن عن نظام التوزيع والعدالة الاجتماعية، وحل مشاكل الطبقات الفقيرة والمحرومة، فيثبِّت لنا النظام الآتي: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر/ 7).
ولمواجهة مشكلة الفقر، شَرَّعَ الإسلام الزكاة والخُمس والصدقات والكفّارات المالية، ودعا إلى الإنفاق المادّي، وأوجب على المجتمع والدولة كفالة الفقراء العاجزين عن سدِّ حوائجهم الاجتماعية والمعاشية وأَولاها الاهتمام الكبير.
نقطف في هذا ما جاء في كتاب الإمام عليّ (ع) إلى واليه على مصر (مالك الأشتر): «ثمّ الله الله في الطبقةِ السُّفلى من الذين لا حِيلةَ لهم، والمساکين والمحتاجين وأهلِ البُؤْسَى والزَّمْنَى، فإنّ في هذهِ الطبقةِ قَانِعاً ومُعتَرّاً، واحفظِ للهِ ما استحفظَك من حقّه فيهم، واجعلْ لهم قِسماً من بيتِ مَالِك، وقِسماً من غَلَّاتِ صَوَافِي الإسلامِ في کلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وکلٌّ قد استُرعِيتَ حقّه؛ فلا يشغلَنَّك عنهم بَطَرٌ، فإنّك لا تُعْذَرُ بتَضييعك التّافِه لإحکامِك الکثيرَ المهم. فلا تُشخِصْ هَمَّك عنهم، ولا تُصَعِّرْ خَدَّك لهم، وتَفَقَّدْ أُمورَ مَن لا يَصِلُ إليك منهم ممّن تَقتحِمُهُ العيونُ، وتَحقِرُهُ الرجالُ، فَفرِّغْ لأُولئك ثِقَتَك من أهلِ الخَشيةِ والتواضعِ، فليَرفعْ إليك أُمُورَهُم، ثمَّ اعملْ فِيهم بالإعذَارِ إلى اللهِ يومَ تَلقَاهُ، فإنّ هؤلاء من بين الرّعِيةِ أحْوَجُ إلى الإنصافِ من غيرهم. وکلٌّ فأعذِرْ إلى اللهِ في تَأديةِ حقِّه إليهِ. وتَعهَّدْ أهلَ اليُتْمِ وذوي الرقَّةِ في السِّنِّ ممّن لا حِيلَةَ له ولا يَنصِبُ للمسألةِ نفسَه، وذلك على الولاةِ ثَقِيلٌ، والحقُّ کلُّه ثَقِيلٌ، وقد يُخفِّفُهُ اللهُ على أقوام طَلبُوا العاقِبةَ فَصبَّرُوا أنفسَهم، ووَثِقُوا بصِدقِ مَوْعُودِ اللهِ لهم»[1].
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الإصلاح الاجتماعي):
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة/ 205).
﴿وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/ 224).
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران/ 104).
﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف/ 86).
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال/ 1).
﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود/ 88).
﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود/ 116-117).
﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص/ 83).
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (لقمان/ 17).
القرآن في دعوته ومنهجه يريد أن يبني الإنسان الصالح والمجتمع الصالح، وأن يصلح المجتمع الإنساني عندما يحدث فيه الفساد والانحراف، وتلك هي رسالة الأنبياء جميعاً؛ ولذا أرسل الله سبحانه الأنبياء والمرسلين، جيلاً بعد جيل، لإصلاح شعوبهم ومجتمعاتهم.. إصلاح العقيدة والفكر والتفكير، وإصلاح السلوك والعمل ونظام الحياة، وإصلاح العلاقات الإنسانية الفاسدة.
المجتمع البشري كالجسم البشري تحدث فيه الأمراض.. يحدث فيه الفساد الفكري والأخلاقي والسلوكي والمالي والسياسي، لذلك دعا القرآن - كما رأينا في مقدّمة البحث - إلى الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الفساد وجعل ذلك واجباً تعبُّدياً، ومسؤولية جماعية وسياسية.
وبذا فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائية، التي يتوجّه التكليف فيها للجميع، بل ويذهب بعض الفقهاء إلى وجوبهما العيني.
والقرآن شَرَّع هذه الفريضة، وشَدَّد على الأمر بها، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ (آل عمران/ 104).
وبنصِّه الواضح: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (التوبة/ 71).
إنّ القرآن في هاتين الآيتين يأمر بالعمل الجماعي.. أي العمل المؤسّسي والتعاوني لمكافحة المنكر والفساد، ونشر الخير والمعروف والإحسان.. يأمر بالعمل التعاوني والجماعي الذي يجب أن يكون في عالمنا المعاصر على شكل منظّمات ومؤسّسات حكومية ومدنية منظّمة، تعمل على النهوض بهذا الواجب الإصلاحي الخطير، وتتبع الوسائل العلمية والتقنية الحديثة.
وذلك واضح في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾، فالآية تؤكِّد على أن يكون من المسلمين (أُمّة)، أي جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وفي الآية الثانية، وصف القرآن المؤمنين بأنّ بعضهم أولياء بعض.. يُوالي ويُناصر ويُآزر بعضهم بعضاً فيعملون على تكوين جماعة متعاونة لإصلاح المجتمع واستئصال جذور المنكر والفساد ونشر الخير والمعروف، ولا يمكن لأي عمل جماعي أو مؤسِّسي أن يُمارس مهامه إلّا بشكل مُنظَّم وتحت توجيه وإدارة ونظام عمل متكامل، وفي عالمنا المعاصر يحتاج إلى إمكانيات عديدة، ومنها استخدام التقنيات ووسائل الإعلام الحديثة والمشاريع الاجتماعية والخدمية والتربوية والتأهيلية والإمكانات المادّية... إلخ.
وحين يُمارس أفراد المجتمع ومؤسّساته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سيُحقِّقون تطهير المجتمع من الجرائم والفساد والانحراف، كالقتل والسرقة والجريمة المنظَّمة والإرهاب والرشوة والخيانة والغيبة والرِّبا والاحتكار والتلاعب بالأسعار والغش في الأسواق وظلم الآخرين من الرجال والنِّساء، وتسلُّط الحُكّام الطُّغاة، والفساد المالي والإداري والقضائي، والكذب والزِّنا واللواط وشرب الخمر والمخدّرات، وعقوق الوالدين وأذى الجار وشهادة الزور، والفكر المنحرف المنحل والتحلل الأخلاقي... إلخ، فكلّ تلك الأعمال هي منكرات يعمل المصلحون (الدولة والأفراد والمؤسّسات) على تخليص المجتمع منها.
وبذا سيعمل أفراد المجتمع - إلى جانب القضاء وجهود الدولة - في عملية الإصلاح ومحاربة الفساد والانحراف وإعادة بناء المجتمع وإصلاحه وتخليصه من الظواهر السلبية الهدّامة، وكما رأينا في ما سبق من الآيات كيف حذَّر القرآن من عاقبة الفساد وشدَّد النكير على المفسدين، ودعا إلى ردعهم ومحاربتهم بأقسى العقوبات: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة/ 33).
وفي موسوعات الفقه الإسلامي، نجد منظومة متكاملة من الأحكام والقوانين الجنائية التي تُحدِّد وصف هؤلاء الجُناة، ونصّ العقوبات التي يستحقّها هؤلاء المفسدين في الأرض والمحاربين لله، أي المحاربين للحقّ والعدل والأمن والسلام ومنهاج الهدى والإصلاح؛ ليستأصل الإرهاب والفساد، ويتحقَّق الإصلاح والأمن والسلام في الأرض، وذلك ما يأمر به القرآن بنصِّه: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود/ 88)، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود/ 117).
ت) الدولة والدعوة والمجتمع:
إنّ دراسة السيرة النبويّة وتاريخ الدعوة الإسلامية والتأمُّل الدقيق في القرآن الكريم، يكشف لنا بوضوح العلاقة الوثيقة بين الدعوة والدولة والمجتمع.. بدأ الرسول (ص) دعوته في مكّة المكرَّمة، وظلَّ يدعو الناس إلى الهدى والإيمان والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي مدّة ثلاثة عشر عاماً، بنى خلالها طليعة من الدُّعاة والمؤمنين بالرسالة الذين تحدّوا التعذيب والقتل والطغيان والاستهزاء، وحين شعر أعداء الهدى والإصلاح من طواغيت مكّة وأتباعهم بالخطر على فكرهم الجاهلي وعقليّتهم المتخلِّفة ونظامهم الاجتماعي الظالم المنهار، ولم يتمكَّنوا من مواجهة فكر الدعوة وحركتها التغييرية في المجتمع أو إيقاف نمو الدعوة، وتنامي المؤمنين بها رغم وسائل الإرهاب والتعذيب والقتل والحصار والتجويع، وحين يئسوا من إيقاف تيار الدعوة الإسلامية الجارف، لجأوا إلى التآمر والتخطيط لقتل الرسول (ص)، فاختار رسول الله (ص) الهجرة إلى المدينة لينطلق من القاعدة التي أسَّسها طليعة من المؤمنين في المدينة المنوَّرة، فكانت الهجرة إلى المدينة بداية بناء المجتمع الإسلامي هناك.
وضع الرسول (ص) الأساس القانوني والتنظيمي لهذا المجتمع مُدوَّناً في وثيقة مدنية لتنظيم المجتمع.. كتبها الرسول (ص) لمكوّنات المجتمع، المسلمون وغيرهم، ثمّ انطلق المسار الإسلامي وأقبل الناس على الإيمان بالإسلام ديناً ومنهجاً للحياة ونظاماً للمجتمع، وأصبحت المدينة أرض صلبة للإسلام.
وشرع الوحي بإنزال الأحكام والقوانين لبناء المجتمع، وكان بناءً متيناً بُني على أساس التآخي والتعاون والإيثار والولاء بين المؤمنين، وممّا زاد المجتمع قوّة هو مشروع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الذي نَفَّذه الرسول الكريم محمّد (ص).
تَكوَّن نسيج هذا المجتمع من المهاجرين والأنصار، وصار هذا المجتمع ذات دلالات عقيدية وثقافية واجتماعية، وبُني المجتمع القوي المتماسك الذي حمل الدعوة بإيمان وقوّة.. وحين وصل الرسول الكريم 6 المدينة المنوَّرة بنى مسجده الشريف، ليكون بيت العبادة ومركز التجمُّع والقيادة، ثمّ ببناء الدولة على أُسس الشريعة ومنهج القرآن، وكانت الانطلاقة بتشكيل القوات المسلّحة (تشكيل السرايا)، وتشريع الزكاة - المصدر المالي للمجتمع والدولة -، ثمّ تشريع الغنائم بعد أن حصل الإذن بالقتال.
فقد شرع القتال، وكانت البداية ببدر في السنة الثانية من الهجرة بقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ (الحجّ/ 39).
وفي العام نفسه شرعت الزكاة بقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة/ 103).
وهكذا تسلسل المنهج القرآني في بناء مشروعه الحضاري الكبير - كما قرأناه - ابتداءً ببناء الطليعة والشخصية الإسلامية، ثمّ بناء المجتمع، ليكون الأساس لبناء الدولة الإسلامية القرآنية،
ثمّ تواصل مشروع بناء الدولة والمجتمع ونشر الدعوة وامتداد هذه المنظومة الثلاثية (المجتمع الإسلامي، الدعوة، الدولة) إلى أنحاء الجزيرة العربية كوحدة عقيدية متكاملة، لا ينفصل بعضها عن بعض، وفي ظل منهجية منسقة، فللجميع وظيفته ومسؤولياته، وللدعوة دورها العقيدي والثقافي والقانوني، وللدولة دورها في حمل الدعوة وحماية الأُمّة والرسالة وقيادة المجتمع وتطبيق القانون ونشر الأمن، كلّ ذلك جرى بقيادة نبويّة معصومة، رأى الناس فيها العدل والإحسان.
وفي مرحلة بناء الدولة في المدينة المنوَّرة، نقرأ النصوص القرآنية والنبويّة التي تأمر بالدعوة إلى الإسلام، وبناء المجتمع، والحكم بما جاء في كتاب الله، وما بَيَّنه الرسول (ص) من قواعد الحُكم، وإقامة العدل، وإدارة شؤون الأُمّة المسلمة.. من هذه النصوص القرآنية قوله تعالى في مهمّة الدعوة إلى الإسلام ونشر مبادئه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران/ 104).
وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة/ 122).
وقوله عزّوجلّ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل/ 125).
وفي بناء المجتمع، نُذكِّر ببعض الآيات بعدما عرضناه بشكل مفصَّل في هذا المجال.. نُذكِّر بقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (التوبة/ 71).
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة/ 2).
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران/ 103).
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ (الحجرات/ 10).
وكما شرع ووضع الأُسس والمنهجية المتكاملة للمجتمع والدعوة، وضع الأُسس وأُصول الحُكم والسياسة والدولة، قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ (المائدة/ 49).
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النِّساء/ 58-59).
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل/ 90).
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية/ 18).
[1]- نهج البلاغة، الكتاب53، عهده للأشتر، ص608.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
محمد رموز
لبناء المجتمع ينبغي إصلاح الإنسان في عقيدته وفكره وسلوكه. من خلال تربيته وتعليمه وأن تكون فكرة دينية إصلاحية في العمق وليس الظاهر. كما يجب محاربة الجناة والمجرمين الذين يحاربون الأمن والسلام في المجتمعات.من خلال المنكرات والفواحش.