خصلة الصبر هي عنوان المؤمن الكامل التي يواجه بها الحياة في ثقة وطمأنينة ويقين بالله كما فعل ذلك الرسول في قوله: «مثلُ المؤمن كمثل القطعة من الذهب ينفخُ عليها صاحبها لم تتغير ولم تنقص، والذي نفسي بيده إنّ مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيِّباً ووضعت طيِّباً لم تكسر ولم تفسد، ومثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح تعدلها مرة وتقيمها أخرى».
وهناك المخلصون الذين كبرت نفوسهم وخلصت قلوبهم فاجتازوا مرحلة الصبر إلى مقام الرضا بالله وهؤلاء هم الذين يصبرون عند البلاء ويشكرون عند الرخاء ويرضون بمواقع القضاء. وفي وصية الرسول لابن عباس يقول: «فإذا أردتَ أن تعمل بالرضا فاعمل وإن لم تستطع فإنّ في الصبر على ما نكره خيراً كثيراً واعلم أنّ النصر مع الصبر وأنّ الفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسراً».
أمر القرآن الكريم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر على أقوال المشركين واستهزائهم وذكّره ببعض الأنبياء كداود (عليه السلام)، حيث سخّر الله له الحيوانات والجبال تُسبّح للخالق وآتاه الله الملك، يقول تعالى: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص/ 17-20)
وتذكرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقصة داود (عليه السلام) في حديث عن الصبر، يؤيِّد القول بأنّ داود (عليه السلام) كان صابراً محتسباً إلى الله، بالرغم من إتيانه الملك، فالرئاسة امتحان وابتلاء، وما لم يصبر الإنسان على ذلك، فإنّ الشيطان له بالمرصاد، وكثير من الناس مَن يعتزّ بمنصب أو وظيفة أو جاه. والواقع، أنّ الذي يدخل معترك الحياة الاجتماعية والسياسية عليه أن يدرك أنّ أشدّ ما يغوي الإنسان ويحرفه عن طريق الله هو تعلقه بمظاهر القوّة والسلطة وحبّ التملك، وإذا لم يكن ذاكراً لله، مستغفراً لذنوبه، ناقداً لنفسه، عفيفاً في تعامله مع الحياة، صابراً في ابتلائه، أغواه الشيطان، وأدخله في محارم، ما كان يتصوّر يوماً أنّه سيدخلها.
وكان النبيّ يوسف (عليه السلام) يدعو الله سبحانه وتعالى متذللاً خاشعاً أن يثبِّته على عقيدة التوحيد، ويحشره مع الصالحين، في الوقت الذي كان فيه عرش مصر تحت قبضته، فيناجي يوسف ربّه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101).
وقد ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة/ 24)، وقال تعالى: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) (القصص/ 54). وهكذا قرن الله الإمامة والقيادة لأمر الناس بالصبر وأنّه تعالى أقامهم أئمة لما صبروا، مما يدل على أنّ هذه الطبقة إنما تكون من صنف خاص من الناس وهم الصابرون الذين مارسوا الصبر وتربّت نفوسهم على التحمّل وضبط النفس وعدم الجزع عند المحن أو الهلع عند الأزمات، وكلّ هذا من فنون الصبر لمن مارسه في نفسه حتى راضٍ من إرادته وملك عنانها وهؤلاء هم الأقوياء الذين يختارهم الله أئمة يهدون بأمره وأولئك يؤتون أجرهم مرتين مرة في الدنيا بإخضاعهم لها ومرة في الدار الآخرة كما وعدهم الله بذلك (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا). وقد جمع الله للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 155- 156) فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين.
ولما كان الصبر بهذه المثابة وكانت غايته في تقوية الفرد والمجتمع بهذه الدرجة، رتبّ الله تعالى على الناس وظائف من العبادات تتمثل فيها هذه الخصلة من التدريب البدني والنفسي، فرتبّ عليهم عبادة الصوم مثلاً بما فيها من مشقة الامتناع وكف النفس عما تطلبه والصبر عن الطعام والشراب حتى تتريض وتتدرب على الكفاف والمنع، وكذلك عبادة الحجم وما فيها من مشقة السفر وتحمّل رسوم الإحرام وهي نوع من ممارسة الصبر والتحمّل في أوقات الرخاء والسلم وإعداد للأُمّة والأفراد في أوقات الشدة والجهاد.
كان هذا شأن الأُمّة الإسلامية في قيامها، وكان هذا شأن النبيّ وأصحابه في بعثها والنهوض بها، وكان هذا شأن الإسلام في تعاليمه التي أرشد بها المسلمين وهداهم إلى التمسك بها والسير على نهجها حتى أصبحت الأُمّة الإسلامية أُمّة قوية وكتب الله لها الغلبة والنصر على أُمم أخرى. أكثر عدداً وأوفر مالاً وعدداً. كانت أهم المميزات التي ساعدت على هذا كلّه هو ما طبع عليه المسلمون أفراداً وجماعات من عزيمة الصبر وقوّة التحمل التي جعلت من هؤلاء الصابرين صخوراً صلداء وجبالاً ثابتة قوية لا تزول ولا ينال أحد منها منالاً. الأُمم القوية هي الأُمم التي تحملت وتحمل أفرادها فنوناً من الكفاح والمغالبة في الحياة، وخلصت من ذلك بعد صبر طويل وجهد شاق إلى دور من قوّة الاحتمال ووحدة الشخصية في أجيالها المتتابعة.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق